للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[علو همة السلاجقة في الجهاد]

في عام (٤٦٣) من الهجرة سار ملك الروم أرمنوس إلى بلاد المسلمين بمائتي ألف مقاتل على أقل تقدير للمؤرخين، كان هذا الجيش كثيفاً يضم أخلاطاً من الروم والفرنجة والروس والصرب والأرمن والبوشناق، واتخذ طريقه إلى العراق، وقبل أن ينطلق من أوروبا أقطع بطارقته الأرض حتى بغداد، فالأرض من المكان الذي هو فيه إلى بغداد قسمها كلها على البطارقة، فكان يقول لكل منهم: أنت ستملك كذا، وأنت ستحكم كذا.

ونحو ذلك، فجعلها إقطاعات لهم كأنه ضامن أنه سيستولي على هذه الأرض كلها.

فأقطع بطارقته الأرض حتى بغداد، وعين له نائباً على بغداد قبل أن يسير، واستوصى نائبه بالخليفة خيراً.

وقد عزم أرمنوس أن يبيد الإسلام وأهله، وإذا انتهى من العراق وخراسان مال على الشام ميلة واحدة فأباد المسلمين فيها أيضاً.

خرج أرمنوس من القسطنطينية متجهاً نحو الشرق، فوصل إلى ملاذكرت في شرقي تركيا اليوم على مقربة من بحيرة (وان)، وأتى الخبر إلى ألب أرسلان السلطان السلجوقي وهو في أذربيجان وقد عاد من حلب، فلم يتمكن من جمع الجند لبعده عن مقر حكمه، ولقرب العدو منه، فسار بمن معه وهم خمسة عشر ألفاً.

أي أن خمسة عشر ألفاً يواجهون مائتي ألف.

وسار متوكلاً على الله سبحانه وتعالى للقاء هذا العدو، وقال: إنني أقاتل محتسباً صابراً، فإن سلمت فنعمة من الله تعالى، وإن كانت الشهادة فإن ابني ملك شاه ولي عهدي.

وجد في السير وأرسل مقدمته أمامه، فالتقت عند مدينة خلاط بمقدمة الروم، وكان عددهم عشرة آلاف، فهزم الروم بإذن الله وأسر قائدهم.

واقترب الجمعان بعضهما من بعض، وأرسل السلطان إلى ملك الروم يطلب منه الهدنة، فقد خافه لكثرة من معه؛ إذ يفوق جند ملك الروم جند المسلمين بخمسة عشر ضعفاً، غير أن ملك الروم قد أخذته العزة بالإثم فقال: لا هدنة إلا في الري.

ومدينة الري هي طهران، ولم يدر أنه يقدم قومه إلى الهاوية، فتأثر السلطان من هذا الرد المتغطرس، فاستشار إمام جنده أبا نصر محمد بن عبد الملك البخاري، فأجابه: إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال في الساعة التي تكون الخطباء على المنابر؛ فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة.

وكان يومها يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة، وجاء يوم الجمعة، وحان وقت الزوال، فصلى أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري بالناس، فبكى السلطان وبكى الناس لبكائه ودعوا معه بعد الصلاة، وقال لهم: من أراد الانصراف فلينصرف، فما هاهنا سلطان يأمر وينهى، وإنما الجهاد والرغبة في لقاء الله.

ثم ألقى القوس وأخذ السيف، ولبس البياض وتحنط، وقال: إن قتلت فهذا كفني.

وزحف إلى الروم، وزحفوا إليه، فلما اقترب منهم ترجل -أي: نزل عن الفرس- ومرغ وجهه في التراب وبكى، وأكثر من الدعاء وطلب النصر من الله سبحانه وتعالى.

ثم ركب وحمل على الروم، وحمل المسلمون حتى وصلوا إلى وسط الروم، وحجز الغبار بينهم، وما هي إلا جولة حتى أنزل الله نصره، وهزمت الروم، ومنحوا المسلمين أجسادهم، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً حتى امتلأت الأرض بالجثث، وقدر عدد القتلى بمائة وخمسين ألفاً، أي أن كل مسلم قد قتل عشرة من الروم، ووقع ملك الروم أرمنوس وبطارقته جميعاً أسرى بأيدي المسلمين، وحمل أرمنوس إلى السلطان ألب أرسلان، فلما وقف بين يديه ضربه على رأسه بالعصا ثلاث مرات، وقال: لو كنت أنا الأسير بين يديك ما كنت تفعل؟ قال: كل قبيح قال: فما ظنك بي؟! قال: إما أن تقتل بعد أن تشهر بي في بلادك، وإما أن تعفو وتأخذ الفداء وتعيدني.

قال: ما عزمت على غير العفو والفداء، فافتدى نفسه بمليون ونصف من الدنانير، فقام بين يدي السلطان، وسقاه شربة من ماء، وقبل الأرض بين يديه، وقد ترك له السلطان عشرة آلاف دينار ليتجهز بها، وأطلق معه جماعة من البطارقة الأسرى.

<<  <  ج: ص:  >  >>