للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شرف نفس الأستاذ سيد قطب]

التاريخ الإسلامي حافل بمثل هذه النماذج وهذه الأمثلة التي تبرز لنا هذا المعنى العظيم الجليل، ونحن لا نقصد الاستيعاب، وإنما نقصد ضرب الأمثلة، ونختم الكلام في هذا الفصل بمثال فذ من عصرنا الحديث، لرجل بذل حياته لإعلاء كلمة الله، وهو الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى وأعلى درجته في الشهداء، فإن ذلك الرجل -وما أقل الرجال في هذا العصر- ارتضع منذ طفولته معاني العزة والكرامة والأنفة وشرف النفس حتى عاش حياته سيداً، وغادر الدنيا سيداً رافعاً رأسه، وعاش حياته قطباً، وغادرها أيضاً قطباً في الدعوة والجهاد، وحياته الطويلة حافلة بمواقف العزة والكرامة، لكن نتوقف عند ساعاته الأخيرة وهو يغادر هذه الدنيا الفانية، فقد طلب منه أن يعتذر للطاغية مقابل إطلاق سراحه، فقال: لن أعتذر عن العمل مع الله! وعندما طلب منه كتابة كلمات يسترحم بها عبد الناصر قال: إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة يرفض أن يكتب حرفاً يقر به حكم طاغية.

وقال أيضاً: لماذا أسترحم؟! إن سجنت بحق فأنا أقبل حكم الحق، وإن سجنت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل.

وفي إحدى الجلسات اقترب منه أحد الضباط وسأله عن معنى كلمة (شهيد)، إشارة له إلى أن مصيرك أن تقتل، فرد عليه رحمه الله تعالى قائلاً: كلمة (شهيد) تعني أنه شهد على أن شريعة الله أغلى عليه من حياته.

يقول الشاعر: لعمرك إني أرى مصرعي ولكن أغذ إليه الخطى لعمرك هذا ممات الرجال فمن رام موتاً شريفاً فذا هذا هو عالي الهمة، يعرف قدر نفسه، ويعرف شرف نفسه.

وعلى الجانب المقابل خفيف الهمة دائماً يكون دنيء النفس، يشعر بأنه حقير، وأن حجمه ضئيل، لا قدر له، ولا وزن له، وهذا ينعكس في تصرفاته في انعدام ثقته بنفسه، فمعلوم أن الإنسان يستحي ممن يكبر في نفسه، فمن يراه عظيم القدر يستحي منه أكثر من غيره، فيستحي من العالم أو من الرجل الصالح أكثر مما يستحي من الفاسق أو من الطفل الصغير، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (استح من الله كما تستحي رجلاً من صالحي قومك) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فالإنسان من العالم لأن العالم أكبر في نفسه من الجاهل، ويستحي من الصالح أكثر من الفاجر، في حين أنه لا يستحيي من الحيوانات ولا من الأطفال، ومن كانت نفسه عنده كبيرة، ويشعر بشرف نفسه وأن لها قدراً ووزناً فإنه يحترم نفسه، فإذا خلا بنفسه فإنه لا يقبل على دنيء الأمور وخسائسها؛ لأنه يستحي من نفسه؛ لأن نفسه عنده كبيرة، كما أنه لا يفعل الدنايا أمام العالم الصالح أو أمام الشيخ المسن استحياء منهما؛ لأنهما يكبران في نفسه، فكذلك لما كبرت نفسه عنده فإنه يعرف قدرها، فلا يهينها حتى في خلوته.

فمن كانت نفسه عنده كبيرة كان استحياؤه منها أشد من استحيائه من غيرها، أما خسيس الهمة فإنه يستحيي من الناس ولا يستحي من نفسه إذا انفرد عن الناس؛ لأن نفسه أخس عنده من غيره، فهو يستحي من الآخرين لأن لهم قدراً عنده، ولا يستحي من نفسه لأنه ليس لنفسه قدر عنده، وهو يراها أحقر من أن يستحي منها، فمن ثم قال بعض السلف: من عمل في السر عملاً يستحيي منه في العلانية فليس لنفسه عنده قدر.

وقيل لبعض العباد: من شر الناس؟ قال: من لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً.

<<  <  ج: ص:  >  >>