للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

التفكر في الموت يزهّد في الدنيا

ولن تتذكر ذلك حتى تتذكر هاذم اللذات، وتعرف أن الموت لا يستأذن على أحد، يأتيك على غرة وعلى حين غفلة، تجدك جالساً مع أهلك وأولادك متكئاً على الأريكة، فإذا بهاذم اللذات ينزل عليك، وتجمد العينان، ويشخص البصر وهيهات وحالك: ادع الطبيب، ولم أرَ الطبيب اليوم ينفعني، نعم يا أخي! أين فلان وأين فلان؟ فلان خرج في الصباح للعمل، وقد تجهز ولبس ما عنده من الزينة، ولما سار في الطريق، وقبل أن يصل العمل، وإذا بسائق طائش يجتاز الإشارة، ويصطدم به وإذا بالهاتف يرن: ألوه! أبوكم في الثلاجة، الله أكبر! كيف في الثلاجة، هل أبونا مات؟! نعم مات سبحان الله العظيم مات!

والآخر بات في الليل وقد سمر مع الأصحاب وأكل وشبع، وأرادوا أن يوقظوه لساعة العمل، وإذا هو جثة هامدة مات فلان؟ مات فلان، يا أخي! إن الموت لا يعطي إنذارات، بل يأتيك على غرة.

هل أنت شاكٌ في ذلك؟ اسمع قول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:٣٥] هذا كلام الله عز وجل، هذا مرسومٌ رسمه ربنا جل وعلا، وجاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو موجود إلى الآن: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:٣٥] نعم نموت، ولو كُنا في فلل ورفعنا السور، وأعمقنا للقواعد، ورفعنا القصور، نموت، وهذا من قول ربنا جل وعلا: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:٧٨] فلماذا لا نستعد لهذا؟ ولماذا لا نعتبر؟ الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {زوروا القبور، فإنها تذكركم بالآخرة} قف على القبر الذي جلس عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى حتى بل الثرى، وقال: {هنا تسكب العبرات}.

المهم -يا عبد الله- أنه مطلوب منك أن تستعد لهادم اللذات ومفرق الجماعات، وميتم الأطفال ومرمل النساء.

قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩] جاء ملك الموت لموسى كليم الرحمن فلطمه موسى ففقأ عين ملك الموت، فرجع الملك إلى الله عز وجل، فقال: إن عبدك موسى فقأ عيني، فقال الله: اذهب إلى عبدي موسى، ومره يضع يده على جلد ثور، فله بعدد الشعر سنين، أو كما ورد في الحديث الصحيح، ثم قال موسى: وبعد ذلك أموت؟ قال: نعم تموت {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:١٨٥] {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:٢٥ - ٢٧] احضروا الطبيب، اذهبوا به إلى البلدة الفلانية، اذهبوا به بطائرة خاصة، ولكن هيهات، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩] {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:٢٧ - ٢٩] مات فلان، مات فلان، جمدت العينان، سكت القلب، شخص البصر، ثم يستعدون به ويأتون بالمغسل والمكفن.

ومع الأسف الشديد لقد سمعنا خبراً محزناً أن بعض المغسلين الثقاة لما أراد أن يغسل شاباً، يقول: انقلب أسود اللون، كان قبل أن يغسله أبيض فانقلب أسود اللون، وسأل والده عن ذلك، فقال: إنه لا يصلي.

ثم يذكر لنا هذا الثقة أنه أراد أن يقبر شيخاً كبيراً -أي كبيراً في السن- وفي ساعة متأخرة من الليل، ولم يجدوا إضاءة يستضيئون بها حتى يدخلوه في اللحد، فلما كشف عن وجهه، سطع القبر نوراً، ورآه من كان خارج القبر، انظروا إلى الفرق يا عباد الله! كلهم عباد الله، وأن الله جل وعلا ليس يبنه وبين خلقه نسباً {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:٤٦].

ثم يوضع هذا في القبر، وهذا القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، ثم هذا في قبره قد فتح له باب إلى الجنة، وهذا فتح له باب إلى النار، هذا فرش له من فرش الجنة، وهذا فرش له من فرش النار، هذا عنده شاب حسن الثياب طيب الريح، وهذا عنده كريه المنظر خبيث الرائحة، فانظر الفرق -يا عبد الله- ووازن بينهما.