للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تسليم الأمر لله من كمال الإيمان]

يقول: ومن كان فقيراً إلى شيء لم يرده الله ولم يشرعه لم يطلق عليه اسم الغني.

فلا يتم الغنى إلا بتدبير الله سبحانه لعبده، وبالمسالمة لحكمه، والوقوف على حسن تدبيره، فاشهد فضل الله عليك، وأن الله يمكر لك، فهو يدبر لعبده المؤمن ما لا يحسن العبد، ثم يبقى عليه الخلاص من معنى آخر: وهو مخاصمة الخلق بعد الخلاص من منازعة الرب سبحانه وتعالى، فمسالمة الحكم تأتي بترك المنازعة لله والخلاص من الخصومة مع الخلق، فإن منازعة الخلق على الحظوظ الدنيوية والتقاتل معهم عليها دليل على فقره إلى الأمر الذي وقعت فيه الخصومة، وهي: الحظوظ العاجلة، ومن كان فقيراً إلى حظ من الحظوظ العاجلة يسخط ويخاصم الخلق عليه فإنه لا يطلق عليه اسم الغريب في الدنيا حتى يسلم الخلق من خصومته؛ لكمال تفويضه إلى وليه وقيومه ومتولي تدبيره، فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن علة منازعته لأحكام الله سبحانه، ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظه، استحق أن يكون غنياً بتدبير مولاه، مفوضاً إليه، لا يفتقر قلبه إلى غيره، ولا يسخط شيئاً من أحكامه، ولا يخاصم عباده إلا في حقوق ربه، فتكون مخاصمته لله وبالله، كما في الحديث: (بك خاصمت وإليك حاكمت)، فتكون محاكمته إلى الله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاح صلاة الليل: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت)، فتكون مخاصمة هذا العبد لله لا لهواه وحظه، فيرد خصمه في المحاكمة إلى أمر الله وشرعه لا إلى شيء سواه؛ فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتبع هواه، وانتصر لنفسه، ولقد قالت عائشة رضي الله عنها: [ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط]، وهذا لكمال عبوديته، ومن حاكم خصمه إلى غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقد حاكم إلى الطاغوت، وقد أمر شرعاً أن يكفر بالطاغوت، ولا يكفر العبد بالطاغوت حتى يجعل الحكم لله وحده، يعني: في الواقع الموجود إذا حكم الله بأمر فاجعل لهذا الأمر في قلبك مكاناً، فأنت إذا ابتليت بأنك تريد أن تختار فهل تتحاكم للشرع أو لغيره؟ فالأمر نافذ وأمر الله واحد ولا تحتاج معه إلى تكرار، فإذا أمر فنفذ أمره سبحانه وتعالى وحسب، قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر:٥٠]، أي: مرة واحدة ليست تتكرر، ويمكنك أن تقول: افعلوا القضية الفلانية أو لا تفعلوها، فإن لم تعمل أتيت أنت وعملتها بيدك فلا تصلح معك، فتحتاج إلى أن تعملها وتجرب مرة ثانية، وتعيد المحاولة، لكن أمر الله مرة واحدة، {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:٥٠]، ولذلك إذا أخر حاجة معينة فإنما هو لحكمته وإمهاله للكفرة والظلمة، ولحلمه سبحانه وتعالى ولعدله، ولأن {يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} [الحج:٤٧]، وقد تأتي لحظة تنظر وفي طرفة عين ينتهي كل شيء كلمح بالبصر، لكننا ننسى تلك اللحظات، وننسى الطريق الطويل لهلاك الأمم، فعندما جاءت لحظة قوم فرعون غرقوا فيها، وما نفعه ما قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:٩٠]، لكن هذه الأحداث دائماً تنسى! فكل ملوك الأرض قبل هؤلاء الموجودين أين ذهبوا؟ كل واحد له لحظه يموت فيها، فإذا أمر الله بأمر إذا بأمم بأكملها تزول، وحضارات كاملة تختفي، والله عز وجل يفعل ما يشاء.