للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الغاية من خلق المخلوقات]

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد: فقد فطر الله سبحانه وتعالى خلقه على أن يعلموا أن لكل فعل فاعل، فإذا وجد الإنسان مثلاً بناء محكماً لم ير بانيه، أو وجد جرة يوضع فيها طعام أو شراب، حفر بعد قرون فوجدها، فقد فطره الله على أن يقول: لابد أن هذا البناء أو هذه الجرة قد صنعها صانع، وإذا وجدها محكمة متقنة فقد فطره كذلك على أن يعلم أنه لابد من غاية في صنعها، بل لو أن إنساناً دخل قرية مهجورة أو بيتاً مهجوراً منذ آلاف السنين فوجد في الحائط مسماراً قد دق فيه لأيقن من غير اضطراب عنده ولا شك ولا تردد أن هذا المسمار قد وضعه واضع، وقد صنعه صانع، وقد دقه في هذا المكان إنسان يريد شيئاً من وراء ذلك.

فهذه فطرة فطر الله العباد عليها، ولو أنك من وراء طفل صغير ضربت بإصبعك على رأسه لالتفت ينظر من فعل هذا! ثم يقول لك: لماذا فعلت هذا؟! فلابد أن يكون لهذا الفعل من سبب، وإذا كان الفعل محكماً متقناً فلابد أن يكون الصانع له غاية من وراء ذلك، حتى المشركون قد أقروا بذلك رغماً عنهم.

انظر في قصة إبراهيم عليه وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام عندما كسر الأصنام، فرجع القوم من عيدهم، فوجدوا الأصنام مكسرة، فلم يقع بخاطرهم أن معركة قامت بين الأصنام، وأن الكبير مثلاً قد غضب ثم قام فكسر الصغار، فإن إبراهيم قد ترك كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون، ما صنعوا ذلك ولا ذهبوا للكبير وقالوا: من الذي كسر زملاءك وأندادك من الأصنام؟ بل قالوا لبعضهم: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٥٩].

إذاً: أقروا رغماً عنهم بأن هذا الفعل له فاعل، وما سألوا الأصنام ولكن سألوا العقلاء، فقالوا: من سمع من يذكرهم؟ {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:٦٠].

هذه فطرة في الإنسان أن كل فعل لابد له من فاعل، وأنه إذا كان الفعل محكماً متقناً فلابد للفاعل من غاية، والإنسان ينظر فيرى نفسه والكون من حوله والسموات والأرض كلها مخلوقات قد وجدت، وعلامات الحاجة والفقر بادية عليه، وهو نفسه يقر أنه ما أوجد نفسه ولا صنع شيئاً من نفسه، ولو تأمل فقط طرف أصبعه كيف رسمت هذه الدوائر المحكمة العجيبة التي يختلف كل إنسان منا عن أخيه وعن كل البشر، ويتميز بهذه البصمة، ويتفكر، هل رسمتها أنت يا أحمد ويا محمد ويا عبد الله؟! هل رسمها أبوك لك؟! هل رسمتها أمك وأنت في بطنها جنين؟! هل رسمها أحد ممن يسمون علماء الطبيعة والطب ونحو ذلك؟! قطعاً الإجابة يقينية عند الجميع أن أحداً منا لم يفعل ذلك، وأن الخلق جميعاً وجدوا أنفسهم مخلوقين كذلك، وهذا الفعل لابد له من فاعل، ولابد بهذا الإتقان وهذا الإحكام أن لهذا الفاعل غاية من وراء إيجاد هذا الخلق، وهذه فطرة في الإنسان وأسئلة ضرورية يفكر فيها كل إنسان عاقل أوجده الله عز وجل على ظهر الأرض، من خلقنا؟ لماذا خلقنا؟ ثم يفكر فيرى الناس أجيالاً تلو أجيال، يأتي قوم ثم يذهبون، يولدون ثم يعيشون مدة ثم يموتون، ثم يأتي دور طائفة أخرى ثم يأتي دوره هو ويجد نفسه ينمو، من الذي كبرك من صغرك؟! ولدت وأنت ثلاثة كيلو جرامات ونصف، أو أربعة على الأكثر، ولدت بلا عقل يفكر، بلا يد تبطش، بلا رجل تمشي، بلا لسان يتكلم، بلا قدرة، بلا إرادة، لا تعي إلا ثدي الأم، تريده ولا تدري لماذا تريده في تلك السن، بل فطرت على أن تميل إليه، وعلى أن تلقمه، وعلى أن تمص منه اللبن، فالله عز وجل فطر العباد على ذلك لمصلحتهم لكي تقوم حياتهم وتستمر، فالله سبحانه وتعالى فعل ذلك بنا، وجعلنا في حياتنا هذه نمر بمراحل تنتهي جزماً إلى الموت، فيسأل الإنسان نفسه ماذا بعد الموت؟ ما معنى هذه الحياة؟ إذاً لماذا وجدنا؟ لا شك أن كل عاقل سوف يقول: صاحب الصنعة أدرى بصنعته، فالله عز وجل خلق هذا الكون بهذا الإحكام والإتقان، فهذه الشمس الهائلة، والنجوم والمجرات والأرض الواسعة، كل ذلك لإحكام وإتقان بالغ، وكذلك جريان الدم في عروقك وفي شعيراتك التي لو فردت وضم بعضها إلى بعض للفت الكرة الأرضية عدة مرات، وفي كل واحد منا من الشعيرات الدموية ما شأنه كذلك، وفي كل ملمتر واحد من دم الإنسان ملايين الخلايا، خمسة ملايين، أو ستة ملايين، أو أربعة ملايين، وفي كل بقعة منها تجد شأناً عجيباً ووظائف محكمة متقنة.

كل ذلك لابد أن يكون لغاية، وأكثر الناس عندما وجدوا أنفسهم قالوا: نعيش لنأكل ونشرب، نعيش لتناكح ونتناسب، نعيش لكي يكون بعضنا رؤساء وبعضنا مرءوسين، بعضنا ملوكاً وبعضنا مملوكين، ولكي يتنافس الناس قتلاً وذبحاً على هذه الدنيا العجيبة، وهم على يقين من أنهم عنها راحلون، ومع ذلك نقطع أن هذه إجابة فاشلة، ولكن انظر إلى حياة الناس فستعرف أن هذه هي الغاية، لماذا يكدح الناس؟ لماذا يتعبون؟ لكي يجمعوا الأموال، لكي تكون لهم الأرصدة، لكي تكون لهم الأرضين، لكي يكون هناك اللذات والشهوات، ثم أليس بعد هذا موت؟ الكل يقول: نعم، لماذا لا يفكرون فيما بعد ذلك؟ لأنهم لم يسألوا من يستطيع الإجابة على هذه الأسئلة الثلاثة: من خلقنا؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين المصير؟ هناك من يقول: خلقنا صدفة بلا خالق، والكل يجمع على أن هذا غير مقبول في مسمار دق على الحائط، وكل إنسان الساعة التي يلبسها في يده لو قال له آخر: إن الحديد الذي فيها، والتروس التي تديرها قد جاءت من قمم الجبال، ونزلت إلى الأرض، وصبت نفسها في انضباط تام، وجاء بعضها وركب على بعض بالصدفة؛ لضحك الناس منه وقالوا: هراء وجنون أن يتصور الإنسان ذلك، مع أن هذا إجابة الكثيرين، وكثير منهم أو الأكثر في الحقيقة يقولون: خلقنا خالقنا وربنا الذي خلق الكون كله، أكثر الخلق يقولون ذلك، ولكنهم لم يسألوا: لماذا خلقنا؟ أو أجابوا بإجابة بلهاء فقالوا: خلقنا لنأكل ونشرب، ونعيش حياتنا، ونتمتع، نسأل الله العفو والعافية.

هكذا يرون الحياة، يرون أن الحياة معناها: تأكل وتشرب، وتأتي النساء، وتأتي الملذات من أجل ذلك خلقنا، إجابتهم إجابة فظيعة، مستحيل أن يكون هذا الإحكام وهذا الإتقان من ورائه هذه الغاية، بل لو تتأمل أن هذه الأمور خلقت فيك، ووجدت فيك كما ذكرنا منذ ولادتك، الحاجة إلى الطعام والشراب لكي تعيش، أنت عندما ولدت جنيناً لم تكن تدري أن حياتك لا تقوم إلا باللبن، ولكن وجدت فيك الرغبة إلى اللبن، والتقام الثدي ومصه وتناول هذا الغذاء والشراب، وعندما أدركت بعد ذلك تجد في نفسك الحاجة إلى الطعام والشراب فتأكل وتشرب، ثم بعد ذلك تعمل لتأتي بالمال لتأكل وتشرب، كل ذلك لكي تعيش، وكذلك النكاح وشهوة النساء، هذه الشهوة لكي يحفظ النوع الإنساني كما تحفظ سائر الأنواع.

إذاً: هذه الشهوات خلقت فينا لكي نحيا فلماذا نحيا إذاً؟ لابد من إجابة أخرى غير أننا نحيا لنأكل ونشرب ونتنافس، أو لتناكح، أو لنأتي هذه الشهوات، فلا يمكن أننا نعيش من أجل ذلك، وإن كان الواقع يثبت أن هذه الإجابة للأسف هي إجابة أكثر الناس على هذا الامتحان.

والله عز وجل أخبرنا لماذا خلق الخلق فقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك:٢]، فإجابة معظم الناس لعب ولهو، والعياذ بالله، قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام:٢٩]، والعياذ بالله، وهذه الحياة الدنيا عندهم لهو ولعب كما أخبر الله عز وجل أنهم يلهون ويلعبون؛ ولذلك كانت إجابتهم فاشلة، وخسرانهم في الامتحان ورسوبهم فيه أكيد، إلا قلة من أهل الإيمان فهموا وأدركوا أنهم لابد أن يرجعوا إلى خالق الخلق، لابد أن يرجعوا إلى صانع الصنعة، لابد أن يرجعوا إلى الذي أحكم كل شيء وأتقن كل شيء، ولا يمكن أن يكون قد خلق هذا الكون بهذا الإحكام والإتقان ثم يتركه سدى بلا حكمة، وبلا غاية، وبلا حساب، وبلا بعث، وبلا نشور، مستحيل ذلك، لابد أن هناك إرشاداً وهداية، وبالفعل نظروا فوجدوا أن الله عز وجل برحمته أرسل الرسل وأنزل عليهم الكتب، وضمن هذه الكتب الحكمة من خلقنا، قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦]، فجعل لهم وظيفة، وكل الوظائف لابد أن تصب فيها، ولابد أن تجتمع عليها، وجعل هذه الوظيفة طيلة أعمارهم، ليست في جانب من جوانب حياتهم فقط، وليست ديكوراً كما يريد البعض أن يجعله، يجعل هناك لوحة متكاملة، ويجعل في جانب منها عبادة الله، يجعل حياته كلها على ما يشتهي ويريد، ومن أراد من الناس أن يجعل لحياته جانباً من العبادة فهو حر، ومن أراد أن يعبد غير الله فهو حر أيضاً، والعياذ بالله.

هذا ميزان أقوام يملئون الدنيا صياحاً، الناس أحرار فيما يعبدون، وفيما يأتون ويذرون، يكفيهم أن يقروا بأن الله هو الخالق، وبعضهم يقول: ولو قال بعضهم: إن الثعابين والشمس والقمر آلهة تعبد من دون الله لكان حقاً له أن يقول ذلك، ولكان ذلك تراثاً حضارياً، ولكان ذلك ميراثاً إنسانياً يدل على الرفعة والكمال الذي يجب أن يحافظ عليه! نعوذ بالله، فقد وجد في الخلق من يعبد الفئران ومن يعبد البقر، وإلى يومنا هذا لا يزال من هو كذلك، هناك في شعوب الأرض من يعبد فرج الرجل، وهناك من يعبد فرج المرأة، وهناك من ينحت التمثال بنفسه ثم يصير عبداً له، ولم يزل هذا عند الناس كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِن