للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[علامات صدق التوكل]

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

أما بعد: فإن من علامات صدق التوكل على الله: أن لا يفرح الإنسان بإقبال الأسباب، وأن لا يضطرب عند فقدها، بل يكون ساكناً، أي: قد نزلت عليه السكينة من الله عز وجل لإيمانه وتوكله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه المشركون وهو في الغار، حيث قال سبحانه وتعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:٤٠].

وحين قال له الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:١٧٣ - ١٧٤].

ومع أن مواقف الشدة واجتماع الأحزاب وتكالب الأعداء تجعل أكثر القلوب في خوف وهلع، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة المؤمنين الكمل معه الذين أنزل الله سكينته عليهم كانوا في حالة أخرى، كما قال الله عز وجل عنهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:٢٢].

وهذا الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان قمة شامخة، وفاض من قلبه من السكينة التي أنزلها الله عليه وعلى قلوب أصحابه ما سكنهم وثبتهم الله عز وجل به، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:٤]، وذلك في مرات عديدة في مواطن الشدة، وهذا أمر عجيب، حيث يكون اجتماع الأعداء، إحداق الخطر، وتجد الأسباب كلها تقتضي هلاك العبد، ومع ذلك ينزل عليه من السكينة ما يجعله لا يعبأ بالخلق، فالنبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد، وفي ليلة الأحزاب، وفي فرار الناس عنه يوم حنين، وفي يوم الحديبية يوم البيعة حين بلغه أنه قد قتل عثمان، في ذلك كله نزلت عليه سكينة، وأفاضها الله تعالى على قلوب أصحابه، بل تفيض على قلوب المؤمنين في كل زمان ومكان، فإن من سمع هذه المواقف وتدبرها نزلت عليه سكينة من الله عز وجل، فينزل الله عز وجل السكينة في قلوب المؤمنين بمعرفة مواقف الرسل الكرام، وانظر وتأمل في مواقف موسى في مواجهة فرعون، فإن فعلت تنزلت عليك السكينة؛ لأن موسى صلى الله عليه وسلم أيده الله بقوله: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:٤٦]، وهو سبحانه وتعالى مع المؤمنين أيضاً عند كمال التوكل عليه، واستحضار معيته عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى ناصر عباده، ومعل كلمته، فهذا كله يجعل الإيمان يستقر في القلب، ويجعل السكينة تتنزل، فلا يحصل اضطراب عند إدبار الأسباب المحبوبة، ولا يحصل فرح عند إقبالها، ولا يحصل خوف ولا قلق عند وجود الأسباب المكروهة، بل يوقن العبد أن الله آخذ بنواصي العباد، وبذا يغري أعداءه بأن يفعلوا ما يريدون، كما قال هود عليه السلام {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:٥٤ - ٥٦].