للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة التوكل]

إن التوكل ليس مجرد كلمة تقال، وإنما هو إحياء وتذكير باللسان للمعنى الذي لابد أن يكون مستقراً في القلب.

وإذا أردت أن تعرف صدق التوكل فانظر إلى مسألة السكينة، وانظر إلى الطمأنينة في ذكر الله، واستشعار ضعف العباد وعجزهم عند قدوم الأقدار، فإذا وجدت هذا الأمر حاصلاً فستسعد سعادة الدنيا والآخرة، وستجد نفسك مطمئناً ساكناً، والدنيا حولك تموج وتضطرب ولا قلق عليك، فإذا كنت لا تقلق من هذا فأنى يصيبك ضرر مما دونه؟! وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يعبئون بما يصيبهم وهم يجدون روائح الجنة، ويجدون لذة العبادة، ولا يشعرون بما يقع حولهم من أهوال تشيب لها الولدان، ويفر من يفر بسببها وهم في فلكهم.

كحال أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه الذي قتل وبه بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، وجعفر بين أبي طالب الذي قتل وما به جرح في ظهره، بل كل جروحه في مقدمته رضي الله تعالى عنه، وقد قطعت يداه ولم يعبأ بذلك، تقطع يده فيمسك الراية بيده الأخرى، فتقطع فيمسكها بعضديه حتى يقتل شهيداً رضي الله تعالى عنه.

وهكذا مصعب بن عمير يقتل دون اللواء، ولا يسقط اللواء إلا بعد موته فيرفعه غيره.

كانوا لا يعبئون بما يقع حولهم، متوكلين على الله عز وجل لنزول السكينة والطمأنينة، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨]، وإذا وجدت اضطراباً وفزعاً فعند ذلك اعلم أن التوكل يحتاج إلى تجديد، وأن الإيمان يحتاج إلى جلاء، ويحتاج إلى إزالة الأمراض من القلب بشهود ملك الله وتدبيره وعزته وقهره، وأنه عز وجل هو الآخذ بناصية كل شيء، وأنه {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:٥].

وأن العباد لا يملكون دقات قلوبهم، ولا نبض عروقهم، ولا يملكون جريان الدم في هذه العروق، ولا يملكون حركة ولا سكوناً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فكيف يهبون ذلك لغيرهم؟! كما قال تعالى: {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان:٣]، فإذا وقع الاضطراب والفزع فإن التوكل يحتاج إلى تجديد الشهود لتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، أي: تحقيق الإيمان والإسلام، وهو ما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت) فهنا يصح التوكل على الله عز وجل، وتحقيق الإيمان يكون بالإنابة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن جلاء القلوب بترك الذنوب؛ فالذنوب هي التي تغشي القلب وتعميه وتصمه حتى لا يرى ولا يسمع الحقائق الإيمانية ولا يشعر بها، ولا يجد طعمها ولذتها، فلكثرة الذنوب لا نجد لهذه الحقائق الإيمانية تطبيقاً في الواقع، بل نجد رعباً وهلعاً وخوفاً وفزعاً، نسأل الله العافية، فإذا كان الأمر كذلك احتاج الأمر إلى الإنابة، فنسأل الله أن يجعلنا منيبين إليه.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر الدعاة إليك في كل مكان، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم فرج كرب المكروبين، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، إنك أنت الغفور الرحيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.