للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحكمة من تسليط الله الكافرين على المؤمنين في بعض الأوقات]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فقد قضى الله عز وجل بعدله وحكمته أن جعل الأيام بين الناس دولاً فقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:١٤٠ - ١٤١]، وجعل الله عز وجل الأيام يتناوب الناس فيها باليسر والعسر، والعز والذل، والتمكين والاستضعاف، وقدر سبحانه وتعالى لأنبيائه ورسله وهم صفوته من خلقه، وقدر على أوليائه من أتباعهم أن تمر عليهم فترات من المحن والشدائد، وأن تمر عليهم فترات يستضعفون فيها في الأرض، ويكونون قلة أذلة، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:٢٦].

فقدر الله سبحانه وتعالى ذلك مع كونه عز وجل لا يحب الظالمين، ولا يحب الكافرين، وإنما سلطهم مدة وجيزة من الزمن على عباده المؤمنين ليستخرج من عباده المؤمنين أنواعاً من العبودية التي يحبها، ولا يمكن أن تظهر هذه الأنواع لو هدى الناس جميعاً، ولو شاء عز وجل لهدى الناس جميعاً، وأمره سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى تكرار وتثنية، قال سبحانه: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر:٥٠] مرة واحدة {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:٥٠] فيقع ما أمر به سبحانه وتعالى، وهو عز وجل لا يعجزه أن يجعل الناس أمة واحدة على الإيمان، حتى أشد الناس كفراً وعداوة لله عز وجل قادر أن يقلب قلوبهم ويجعلها على الهدى، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود:١١٨] لكنه قدر ذلك للحكم البالغة: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [القمر:٥]، فله الحمد سبحانه وتعالى عليها.

لذلك عندما يجد المؤمن المسلمين يصابون بأنواع المصائب والمحن، ويضطهدون بأنواع الاضطهاد، ويجد الفساد ينتشر في مشارق الأرض ومغاربها، ويرى البلاء والمحن، ويرى أنواع الشدائد؛ فيجب أن يحمد الله سبحانه وتعالى، ولا بد أن تقع في قلبه معان إيمانية ضرورية لكي يستفيد من هذه المرحلة التي قدرها الله عز وجل ليظهر منه الخير، وليخرج سبحانه وتعالى من قلوب أوليائه ما يحب من الاستعانة به، والصبر على طاعته سبحانه وتعالى، وعلى ما يصيب الإنسان في سبيله، وعلى ما يصيب الإنسان بسبب مخالفته لأهل الفساد والكفر والنفاق، وكذلك ليوقن المؤمنون بوعد الله سبحانه وتعالى، ويستحضروا أن الله هو الذي أعطى، وهو الذي منّ، وهو الذي آوى؛ لأنهم سوف تأتي عليهم فترات يملكون فيها الناس، ويكونون فوق الخلق، ويتحكمون فيهم فيما يبدو لهم، فهل يكونون في ذلك كملوك الدنيا وأهل الدنيا يتحكمون فيهم لأنفسهم ولهواهم ويقولون: صنعنا، وانتصرنا، وغلبنا، وقهرنا، كقول قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [القصص:٧٨] ونحو ذلك مما قص الله علينا من كلام الكفرة والفسقة والفاجرين؟ أو أنهم سيعلمون أن الله سبحانه هو الذي أورثهم الأرض بمشيئته سبحانه وتعالى لا بقدرتهم، ولا بتخطيطهم، ولا بإعدادهم.