للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عبودية الشهوات وعواقبها]

لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عبودية الشهوات كما بينها الله عز وجل في كتابه، قال سبحانه وتعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:٤٣]، وقال عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ) [الجاثية:٢٣]، فالله سبحانه وتعالى بين أنه يختم ويطبع على قلب من اتبع هواه: ((مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ))، وهو الذي كلما هوى شيئاً ركبه، فاتباع الهوى مردٍ ومهلك يقود الإنسان إلى الشرك بعد أن فعل المعصية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)، فهذه عبودية منها ما يكون شركاً أكبر كما هو ظاهر الحديث، وذلك حين يستعد أن يبيع دينه بالدرهم والدينار، ويبيع دينه بالقطيفة والخميصة، يبيعه بعرض من الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا).

فكثير من الناس يبيع دينه وهو مستعد لذلك نتيجة استجابته للشهوات حين تتحكم فيه تحكماً تاماً، فتكون عبوديته للدرهم والدينار والقطيفة والخميصة شركاً أكبر والعياذ بالله، ولا يريد إلا الحياة الدنيا، وهؤلاء الذين قال الله عز وجل فيهم وفي أمثالهم من أهل الرياء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:١٥ - ١٦]، فهذه الآيات توضح أن هناك عبودية كاملة للدنيا بمعناها التام، عبودية الدرهم والدينار؛ لأنه قال: ((لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ)).

والمسلمون الذين بقي معهم أصل الإيمان والإسلام لهم بعد دخول النار إن دخلوها الجنة، وأما من ليس لهم في الآخرة إلا النار فلا يكونون إلا الكفار، فهذه الإرادة إرادة الدنيا وزينتها قال تعالى: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا))، وهذا الأمر الذي أخبر الله به مقيد بمشيئته، قال عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:١٨]، فهم لا يأخذون كل ما يشتهون ولا ينالون كل ما يريدون، وإنما ما كتب الله لهم من الدنيا مع نغصها وكدرها وشقائها وألمها، فإنها لا بد أن تنال كل من كان على ظهر الأرض بشيء من الشقاء قدراً من الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:١١٧]، فلا سعادة كاملة على وجه الأرض، لا بد من نوع من الألم، ولا بد من نوع من التعب، وأما السعادة الكاملة الحقيقية فهي في الجنة بإذن الله، وفي الدنيا منها بالقرب من الله عز وجل، وذوق طعم الإيمان، وحلاوة الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وبالرضا به رباً، وبالرسول صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً، وبالشعور بالشوق إلى الله عز وجل ومحبته، فهذه ينالها أهل الإيمان من نعيم أهل الجنة الذي نالوه بقربهم، ومرضاة الرب سبحانه وتعالى عنهم لقربهم منه.

إذاً: هناك عبودية للدنيا وهي اليوم منتشرة انتشاراً خطيراً وعنيفاً، بل يروج لها في المشارق والمغارب، بل هذه عمدة حضارة الغرب، بل سفالته وانحطاطه، فإنهم لا يريدون إلا الدنيا، ولا يعملون إلا من أجلها، ولو أقروا بوجود الله وبوجود الأنبياء أو بالكتب فهم يقرون في حياتهم قولاً وفعلاً بأنهم لا دخل لهم بالشرائع التي جاءت بها الأنبياء، ولا دخل لهم بما أمرت به الرسل، وإنما حياتهم ينظمونها كما يريدون؛ تحقيقاً لمصالحهم الوهمية التي توهموا سعادتهم فيها، وإنما قيمهم قيم المادة فقط، وقيم الحياة فقط والرفاهية فيها، ولا يعملون ولا يسعون إلى آخرة، ولا إلى إقامة شريعة ما جاءت بها الرسل، وإلا فأخبرونا: هل أمر المسيح بهذا السلوك الذي عليه الغرب والذي عليه أكثر الأمم؟! وهل أمر موسى صلى الله عليه وسلم بالظلم والعدوان والقتل والطغيان الذي عليه اليهود؟! وهل أمر كل منهما أو غيرهما من أنبياء الله بالشرك بالله ودعاء غير الله وقبول تشبيه غيره به سبحانه وتعالى؟! وهذه أمم الأرض كلها إلا من منّ الله عليه بدين الإسلام، الحق تقبل شريعة غير شريعة الله وترتضيها، وتقاتل من أجلها، وتسعى إلى فرضها، والحقيقة أنها نابعة من عدم الاستسلام والانقياد لله سبحانه وتعالى، فهم لا ينفعهم الإقرار بوجود الله ولا بوجود الرسل، فإن الإقرار بوجود الله إنما يكون إيماناً مع عبادته، وإنما يكون الإقرار بوجود الرسل وصدقهم مع متابعتهم فيما جاءوا به، وكلهم قد جاءوا بوجوب متابعة بعضهم بعضاً، وبوجوب متابعة وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم: {الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:١٥٧].

فلا يكون إسلام إلا باتباع محمد عليه الصلاة والسلام كما قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار) متفق على صحته، وهذا أمر لا يختلف فيه أهل الإسلام والإيمان، في أنه لا يقبل صرف ولا عدل ممن كذب النبي صلى الله عليه وسلم، أو ممن أبى متابعته ورضي بدين غير ما جاء به من دين الإسلام.

ولذلك نقول: إن هذه العبودية للشهوات ربما كانت تامة، وربما كانت جزئية إذا باع جزءاً من دينه بالدرهم والدينار والقطيفة والخميصة، فهذا يكون شركاً أصغر، وإذا باع شيئاً من الدين ولم يبع أصله، إذا ضحى بالطاعة ولكنه لم يضح بالتوحيد، ولكنه على شفا الشرك، اقترب منه وحاذاه نسأل الله العافية، وتوشك قدمه أن تنزلق.

وقد ذكرنا أن خطر سوء الخاتمة هو أعظم ما يخاف على المبتدع وعلى المصر على الكبائر والمعاصي عموماً، فإن ذلك من أخطر ما يهدده، وإنما المؤمن الكامل الإيمان يخاف على نفسه من سوء الخاتمة، فكيف بالعاصي؟! وإذا كان المؤمن يسأل الله أن يتوفاه مسلماً حذراً من سوء الخاتمة فكيف بمن يلاقي ربه عز وجل كل يوم بأنواع المحادة والمخالفة لشرعه سبحانه وتعالى؟! فنقص الإسلام يقرب الإنسان من الكفر والعياذ بالله، هذا هو خطر المعاصي الأشد على الإنسان، وإلا فمن وافى الله موحداً فله يوم يخرج فيه من النار أصابه قبل هذا اليوم ما أصابه وإن كانت -كما ذكرنا غمسة- في النار أشد من كل عذاب في الدنيا، وغمسة في النار تنسي الإنسان نعيمه في الدنيا بأسرها لو كانت له.

نسأل الله عز وجل أن ينجينا من النار، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.