للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فضل الصحبة الصالحة في التثبيت على الطاعة]

فقد أرشده إلى أن يغير صحبته، وهذا من أعظم ما يحتاج إليه التائب والسالك إلى الله عز وجل، فعليه أن يبحث عن قوم يعبدون الله فيعبد الله معهم، ولا يرجع إلى أصحابه أصحاب السوء، فإن ذلك من أعظم ما يعينه على التخلص مما كان فيه من الذنوب ومن العودة إليها مرة ثانية، فأرض سوء تلك التي تتركك تعمل السيئات وتعينك عليها وتحثك عليها، وكم من ملتزم أعلمه ترك الالتزام بسبب العودة إلى قرناء السوء، وأن أصحابه الذين كان معهم في جهله وظلمه وذنوبه ومعاصيه عادوا إلى صداقته مرة أخرى، فحثوه على المعاصي والفساد فرجع مرة أخرى إلى الذنوب، وكم من أخ ملتزم كريم كان سبب التزامه رفقة صالحة وأصحاب أعانوه على طاعة الله وعبادة الله عز وجل معهم، وهذا ليس بالرياء بل هو من التعاون على البر والتقوى، فإن النفوس تتشجع لوجودها مع بعضها، وإن من عادة الإنسان أنه مدني يقلد من حوله فأكثر الناس يقلدون في الشر، وقلة منهم من تقلد في الخير، وأما أفذاذ العالم فهم الذين لا يحتاجون ولا يعنيهم أمر الرفقة اكتفاء بمن كان قبلهم، وربما اكتفاء بمن هو دونهم، ونحن نعلم أن أمر الرفقة أمر مهم عظيم الأهمية.

فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو خير خلق الله على الإطلاق، يأمره الله بأن يلزم أصحابه قال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:٢٨]، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو أستاذ هؤلاء الصحابة فهو الذي علمهم، وهو الذي هداهم الله عز وجل به، وهو الذي أرشدهم إلى طريق الصواب ومع ذلك فهو يحتاج إلى أن يصبر نفسه معهم، ولا يعني ذلك أنه لا يلتزم بدونهم، ولكن رفقة الصالحين مطلوبة ولو كانوا دونك في المنزلة، فأنت تحتاج إلى أصحابك في الخير وإخوانك في الله ولو كنت أفضل منهم والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول في مرض موته آخر ما قاله عليه الصلاة والسلام: (اللهم! في الرفيق الأعلى).

ويقول الخليل عليه الصلاة والسلام كما حكى الله عنه بقوله: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:٨٣]، ويقول يوسف عليه السلام كما قال الله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:١٠١]، وذلك أن صحبة الصالحين نعيم في الدنيا والآخرة، وصحبة الظالمين والفاسقين والكافرين عذاب في الدنيا والآخرة، فصحبة أهل الفساد عذاب للإنسان، ومجرد النظر في وجوه الظلمة أو سماع كلامهم، أو النظر في وجوه الفسقة والفجرة يصيب الإنسان بالهم والكرب، ويصيبه بالضيق ولا يدري من أين يأتيه الضيق، بل لولا الضرورة من صحبة هؤلاء لمحاولة أداء فرض الله سبحانه وتعالى بإصلاح وجه الأرض وملئه بالخير لما استطاع المؤمن أن ينظر في وجوه الظالمين، ولا أن ينظر في وجوه الفاسقين ولا أن يصحبهم فضلاً عن الكافرين، ولذلك بلاء أن يعيش الإنسان في وسط قوم كافرين.

وانظر إلى قول الله عز وجل عن بلقيس: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:٤٣]، ولذلك أقول لكثير من إخواننا الذين أملهم في الدنيا أن يسافروا إلى بلاد الكفار لكي ينالوا شيئاً من الدنيا إن ذلك لعذاب، فلا تظن أن هذه الدنيا التي تحصلها سوف تسعدك بل النظر في وجوه هؤلاء القوم خصوصاً الذين جمعوا بين الكفر والفاحشة -والعياذ بالله- وعدم عفة الفروج من أعظم أسباب البلاء، وأم جريج دعت على ابنها عندما لم يجبها ثلاث مرات عندما أتته وكان يصلي النافلة فقال: يا رب! أمي وصلاتي، فأكمل صلاته حتى ملت وانصرفت، فكرر ذلك ثلاث مرات، وكان الذي ينبغي عليه أن يخرج من صلاة النافلة لكي لا يؤذي أمه حيث لم يرد عليها.

والمقصود أنها دعت عليه فقالت: (اللهم! لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات)، وكانت رحيمة به فلم تقل حتى يواقع المومسات مثلاً ولا حتى يعاشرهن، وإنما ينظر في وجوههن فقط، وكان نظر جريج في وجوه المومسات كنظر مضطر مكروب يريد أن يتخلص من المصيبة التي أتته به هذه المومسة، وكانت امرأة بغي من بغايا بني إسرائيل سمعت الناس يذكرون عن عبادة جريج، فتعهدت بإغوائه، فعرضت نفسها عليه وتصنعت له فلم يلتفت إليها، فإذا كان لم يلتفت إلى أمه فهو لم يلتفت إلى البغي، فأتت راعي غنم فمكنته من نفسها فحملت منه زناً -والعياذ بالله- ثم وضعت مولودها وأتت به بني إسرائيل وقالت: هذا من جريج، فأتوا صومعته يضربونه ويشتمونه وهدموا الصومعة التي كان يعبد الله عز وجل فيها، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه المرأة -وهم فرحون فقد كانوا يتمنون هذه الزلة له كما يتمنى أهل الفواحش دائماً للإخوة الزلات- فقالوا: زنيت بهذه المرأة، فقال: دعوني أصلي، وكان في كرب عظيم؛ فقد كانت المصيبة التي أصيب بها أنه متهم بالزنا وأن هذا الولد ابنه من الزنا، فصلى ثم طعن في بطن الصبي الرضيع وقال: يا غلام! من أبوك؟ فأنطق الله الصبي فقال: أبي الراعي فلان، فجعلوا يقبلون يديه ورجليه وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، فقال: أعيدوها من طين كما كانت.

فانظر إلى هذه الدعوة التي دعتها عليه أمه: أن ينظر في وجوه المومسات، فنظر إليها مضطر لكي يبرأ نفسه، فسبحان الله! وقعت الدعوة واستجيب النداء، وهذا عذاب على الإنسان فما بالكم بمن ينظر إلى وجوه المومسات مسروراً مبتهجاً ينتظر الصورة الآتية، وينتظر أن تزداد عرياً وفحشاً -والعياذ بالله- ويبحث في القنوات المختلفة والأطباق التي تأتي بهذه الصور من المشارق والمغارب، والمصيبة أن هذه الفواحش تؤتى علانية كما قال الله: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل:٥٤]-والعياذ بالله-.

فهذا حال من ينظر إلى المومسات، بل إلى الوجه فقط مما يجوز كشفه عند كثير من أهل العلم، فما بال من ينظر إلى ما هو أسوأ من ذلك من أبدانهن، فما بال من ينظر إلى الفروج -والعياذ بالله- نظر تحريم، فما بال من يأتي الفواحش فهذه مصيبة، وكما قلنا: مجرد صحبة أهل الفساد، والنظر في وجوه أهل الظلم تقسي القلب، إلا أن يكون ذلك لغرض شرعي صحيح كالدعوة إلى الله، وهذا لن يكون بتلذذ مثلاً في النظر أو نحو ذلك، فلن يكون إلا لمصلحة شرعية ويكون لغرض الدين.

وأما صحبة أهل الخير فنعمة من الله سبحانه وتعالى، وإنما تستطيع أن تدرك أهمية هذه النعمة عندما تختلط بغيرهم وأنت قد ذقت معنى مخالطة الصالحين الذين يريدونك على طاعة الله، ولذلك تجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما طعن رضي الله عنه كان أكبر شيء يهتم به هو الرفقة مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في القبر، فهذا أهم شيء كان عنده، ويستأذن عائشة ويأمر بأن يستأذن بغير اسم أمير المؤمنين، وقال: قولوا: يستأذن عمر بن الخطاب ولا تقولوا أمير المؤمنين؛ فإني لست لهم اليوم بأمير، قولوا: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه لمجرد الرفقة في القبر؛ لكي يكون مع صاحبيه، ولذلك يقول علي إني كنت أظن أن يجعلك الله مع صاحبيك؛ لأني كثيراً ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (جئت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر)، رضي الله تعالى عنهما.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء النوم: (باسم الله وضعت جنبي، اللهم! اغفر لي ذنبي، واخسأ شيطاني، وثقل ميزاني، وفك رهاني، واجعلني في الندي الأعلى)، ومعنى (الندي الأعلى) أي: اجعل روحي مع النسم الطيب، فهذه لحظات النوم التي لا يحس فيها الإنسان، فالرسول صلى الله عليه وسلم يدرك ما لا ندركه، والروح في هذه اللحظات تكون في أحوال، ونحن -نسأل الله العفو والعافية- الواحد منا ينام ولا يعرف ماذا يحصل! لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (واجعلني في الندي الأعلى) فمجرد ساعات محدودة فقط يريد أن الروح تكون مع أرواح المؤمنين.

وكذلك في البرزخ، ففي الحديث الصحيح عن روح المؤمن (وتجعل روحه في النسم الطيب)؛ لأن صحبة الصالحين نعيم فعلاً، ولأن ذلك من آثار الحب في الله وأوثق عرى الإيمان، والبعد عن الظالمين من لوازم البغض في الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان الرجل فقيهاً حين قال له: انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها قوماً يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء.

وهكذا نوصي كل أخ أقبل إلى الله عز وجل بقلبه أن يبحث عن قوم يعبدون الله، ويخلصون في عبادتهم لله، ويتبعون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعبد الله معهم، فهو والله يحتاج إلى ذلك احتياجاً أكيداً، ولذلك عندما يستفتي البعض أن الآباء والأمهات أو الأهلين والأقارب يمنعون الأخ من الذهاب إلى مجتمع الإخوة الصالحين، فأنا لا أتردد في أنه لا يجوز أن يترك مجتمع الإخوة ولا يجوز أن يبتعد عن مسجدهم ومجتمعهم ولقاءاتهم؛ لأن ذلك من أسباب فتنته، وكم من شخص أعلمه كان ملتزماً في المسجد ثم بعد ذلك كان بداية الأمر أن يصلي في مسجد آخر غير مسجد الإخوة، ثم بعد ذلك يصلي بعض الصلوات في المسجد وبعض الصلوات في البيت؛ لأنه لم يجد من يسأل عنه، ولم يجد من يقول له: أين كنت؟ ولم يجد من يقول له تأخرت عن صلاة الفجر، ولا يجد من يقول له: تخلفت عن الدرس، ولم يجد من يقول له: هل قرأت القرآن أم لا؟ فلم يسأل عنه أحد، وكثير من الناس يظن أن المسجد إنما جعل لمجرد أن يصلى فيه ثم يغلق، وهكذا يريدونه أن يصلى فيه ثم يغلق، ثم بعد ذلك ترك الصلاة في المسجد، ثم جمع الصلاة بعضها مع بعض، وأعلم بعضهم وصل ربما -والعياذ بالل