للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رد الرسل على المشككين في دعوتهم]

إن هذه الدعوة ستبقى عبر الأجيال والعصور، وعبر الأزمنة والأمكنة بفضله عز وجل؛ لأنها دعوة الرسل، وهي التي لا تموت، وإنما يموت أعداؤها؛ فالله عز وجل ذكر لنا أنهم أعلنوا كفرهم بقولهم: {وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [إبراهيم:٩]، فالذي هو في شك، ما الذي يقتضيه عقله السليم أن يفعله؟ يقتضي أن يبحث لا، أن يعلن الرد والكفر مبدئياً، وإنما يقول: أرونا الأدلة، فقبل أن يقدم الكفر لابد أن يقدم البحث والنظر؛ لأنه في شك، وهو مرتاب؛ فليبحث ولينظر: إما أن يسعى في إسكات صوت الحق، وإما أن يعلن أنه قد كفر بالحق لمجرد أنه في شك، فالعجب من هؤلاء! فالكفر أنواع متعددة، والشك واحد، ولكنهم قدموا ذكر الكفر على ذكر شكهم.

وكان يقتضي العقول السليمة أن تقول: اعرضوا علينا هذا الحق لننظر فيه فإننا نبحث عن الحق، اعرضوا علينا ما جئتم به لننظر فيه أهو من الحق أم من الباطل؟ هذا إذا كانوا في شك حقاً، لكن سوف يظهر لنا حالاً لماذا كفروا ولماذا شكوا؟ الحقيقة: أنها أمراض في النفوس وسوف تظهر جلياً بعد حين.

فهم حاولوا الطعن في الدعوة أولاً، فقالوا: إن الدعوة مشكوك فيها، ثم قالوا: إن الدعوة ليست بينة ولا واضحة، مع أن الرسل جاءت بالبينات؛ ولكنهم لا يرون هذه البينات، فعند ذلك حاولوا الطعن فيها.

وواجهت الرسل هذه المحاولة في التشكيك برصيد هائل في الفطرة، من وحدانية الله، وأنه لا إله إلا هو، وهو رصيد موجود في داخل نفس كل إنسان؛ لأن كل واحد مؤمن أو كافر قد أخذ عليه العهد {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:١٧٢].

إذاً: كل واحدٍ قد أشهده الله عز وجل على نفسه، وشهد أنه لا يستحق الألوهية إلا الله، وأخذ عليه العهد وهو في ظهر أبيه آدم، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يقال للكافر يوم القيامة: لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم، فيقول الله عز وجل: لقد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك وأنت في ظهر آدم أن لا تشرك بي؛ فأبيت إلا أن تشرك بي).

فهذا العهد والميثاق ظهر أثره في فطرة كل إنسان: إما ميله إلى تحقيق التوحيد، أو الشقاء في البعد عنه، فالإنسان يشعر بالراحة والسكون إذا ذكر الله، ويشعر بالتعاسة والتعب والنكد إذا توجه لغيره، ولكن أكثر الناس يسكتون هذه الفطرة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوجودها بقوله: (كل مولود يولد على الفطرة)، وفي رواية: (يولد على هذه الملة)، وهذا أثر من آثار الميثاق الأول، وهي الفطرة الإنسانية في توحيد الله عز وجل، لذا واجهت الرسل هذه المحاولة في التشكيك في الدعوة ذاتها بهذه الحقيقة اليقينية.