للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تعزية الله لنبيه وللمسلمين في شهداء أحد]

ثم عزى الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأولياءه فيمن قتل منهم في سبيله أحسن تعزية وألطفها وأدعاها إلى الرضا بما قضاه لهم فقال: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:١٦٩ - ١٧٠]، فجمع لهم إلى الحياة الدائمة منزلة القرب منه سبحانه، وأنهم عنده، وجريان الرزق المستمر عليهم، وفرحهم بما آتاهم من فضله، ((فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ))، وهو فوق الرضا، بل هو كمال الرضا، والفرح أكمل أحوال الرضا، أي: أن لحظة الفرح هذه أعظم سعادة من مجرد الرضا، والرضا أكمل درجات الصبر وأعلاها، فالصبر يجعل الإنسان في ألم ولكن في سكون، وبالرضا يزول الألم، والفرح سعادة ولذة، وهذا هو الذي حدث للشهداء، رغم أن الذي يبدو لنا تقطيع الأعضاء، وبقر البطون، وأكل الأكباد وغير ذلك مما يؤلم كل من ينظر إلى المقتول؛ لكنه إذا كان في سبيل الله فهو فرح ((فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ))، استبشارهم بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يتم سرورهم ونعيمهم، واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من نعمته وكرامته، وذكرهم سبحانه في أثناء هذه المحنة بما هو من أعظم مننه ونعمه عليهم التي إن قابلوا بها كل محنة تنالهم وبلية، تلاشت في جنب هذه المنة والنعمة وهي الآية التي قبل هذه الآيات، وهي قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:١٦٤] فالإنسان إذا أراد أن يخرج من ألم المصيبة فلينظر إلى النعمة، فإن المصائب قد تجعله في هم وغم وضيق، وكرب شديد، فكيف يزول عنه ذلك، وكيف يعالج نفسه من الغم والكرب؟ ينظر إلى نعم الله، وأعظمها نعمة الإسلام، فيرى أن كلما فقده من الدنيا لا يساوي شيئاً، فتزول وتضمحل، وتتلاشى آلام المحن في جنب هذه المنة والنعمة ولم يبق لها أثر البتة.

يقول: وهي منته عليهم بإرسال رسول من أنفسهم إليهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وينقذهم من الضلال الذي كانوا فيه قبل إرساله صلى الله عليه وسلم إلى الهدى، ومن الشقاء إلى الفلاح، ومن الظلمة إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، فكل بلية ومحنة تنال العبد بعد حصول هذا الخير العظيم له أمر يسير جداً في جنب الخير الكثير، كما ينال الناس بأذى المطر في جنب ما يحصل لهم به من الخير فالمطر يبل الثياب، لكن به حياة الناس ومعاشهم، فأعلمهم أن سبب المصيبة من عند أنفسهم ليحذروا، وأنها بقضائه وقدره ليوحدوا ويتوكلوا عليه ولا يخافوا غيره، وأخبرهم بما لهم فيها من الحكم؛ لئلا يتهموه في قضائه وقدره، وليتعرف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته، وسلاهم -أي: جعلهم يسلون عن ألم المصيبة وينسونه- بما أعطاهم مما هو أجل قدراً، وأعظم خطراً مما فاتهم من النصر والغنيمة، وعزاهم عن قتلاهم بما نالوه من ثوابه وكرامته، لينافسوهم فيه، ولا يحزنوا عليهم، فله الحمد كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.