للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موالاة المنافقين للكافرين في كل زمان]

إن مواقف أهل الإيمان دائماً نابعة من كتاب الله ومن سنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وقضية الولاء والتبعية عندهم محسومة لصالح الالتزام بالدين، فلا بد أن يكون الولاء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:٥١ - ٥٢]، إنه منطق يتكرر في أزمنة وأمكنة مختلفة، إنه منطق أهل الشك والريب والنفاق الذين في قلوبهم مرض الذين يسارعون في موالاة الكفرة رغم ظلمهم وبغيهم واعتدائهم وطغيانهم، فلا يقيمون للحق وزناً، ولا يبنون أمرهم على دليل ولا حجة ولا برهان، وإنما العدل عندهم وفي مقياسهم هو القوة، وليس هو ما شرعه الله سبحانه وتعالى، وهذا من أعظم الظلم وأكبره وأشده، إذ أن ذلك اعتراض على شرع الله سبحانه وتعالى أن ينسب الإنسان فعله إلى العدل دون رجوع إلى شرع الله، ومن يوافقه على ذلك فهو مثله، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولا ريب أن من رأى أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً دون رجوع إلى شرع الله أنه بذلك يكون كافراً والعياذ بالله.

فالعدل هو شرع الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يجب أن يحاكم الناس إليه ويتبع، وأن يلزم الجميع به، سواء كانوا مؤمنين أو كانوا كافرين، فالكل يجب أن يلتزم بشرع الله سبحانه وتعالى، فالمنافقون يعلمون ظلم هؤلاء الذين حذر الله من مولاتهم من اليهود والنصارى ومع ذلك يتولونهم، فحكم الله أنهم ظالمين مثلهم: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:٥١].

فيسارعون فيهم خشية الدوائر كما يزعمون، وغاب عنهم أن القوة والضعف إنما هي ابتلاء من الله عز وجل، وأن القلة والكثرة والتمكين والاستضعاف إنما هي مراحل تمر بها الأمم كما يمر بها الإنسان، فإنه يولد عاجزاً ضعيفاً فقيراً عارياً، ويموت كذلك، ويمر فيما بين هذين الضعفين بقوة وقتية يختبر فيها كيف يعمل، فكذلك الأمم والشعوب تختبر.

فقد قدر الله سبحانه وتعالى على كل الأمم أن تهلك وتبيد إلا هذه الأمة فقد اختصها الله سبحانه وتعالى بفضيلة من عنده وهي أنها لا تموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة)، وأعطى الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم (ألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ويأخذ ما بأيديهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يسبي بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال عصابة من أمتي تقاتل عن هذا الدين حتى تقوم الساعة).

وفي رواية في الصحيح: (حتى يقاتل آخرهم الدجال)، وفي رواية: (حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).

والمقصود بأمر الله سبحانه وتعالى الريح الطيبة التي تقبض روح كل مؤمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ولو كان في جوف جبل لدخلت عليه هذه الريح فقبضت روحه، فلا يبقى في الأرض من يقول: الله الله، وقبل هذه الأشراط الكبرى لا ينعدم الحق من هذه الأمة بفضل الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى جعل القوة والضعف ابتلاء وامتحاناً للعباد ولكن المنافقين لم يفقهوا ذلك، فسارعوا في مولاة اليهود والنصارى {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:٥٢]، فيخشون أن تصيبهم هزيمة فيعدون العدة بالتبعية والموالاة والمناصرة لأهل الكفر والطغيان والظلم والعدوان، قال عز وجل مبشراً عباده المؤمنين ومتوعداً هؤلاء الكفرة والمنافقين: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} [المائدة:٥٢]، و (عسى) من الله عز وجل واجبة، فبقدر تمسك أهل الإيمان بإيمانهم، والتزامهم بكتاب ربهم، وبناء مواقفهم على سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم يأتي الفتح من الله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:٥٢]، وأبهم هذا الأمر الذي من عنده؛ لكي لا يقف فكر المسلمين المؤمنين عند حد، فإن قدرة الله عز وجل لا تحد، فيفعل عز وجل ما يشاء، ويغير الأمور في لحظة واحدة: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:٥٠ - ٥٥].

فالملك والقدرة له سبحانه وتعالى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:١] وقال عز وجل: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} [المائدة:٥٢ - ٥٣]، فيتعجب أهل الإيمان ممن ينتسب إلى الإسلام ويزعم أنه مع أهل الإسلام ضد عدوهم، ثم هو يوالي الكفرة ويعاونهم ويظاهرهم -والعياذ بالله- فيكون منهم، وذلك ينافي معيته للمؤمنين.

فيتعجب أهل الإيمان لتناقض أهل النفاق؛ لأن من كان موالياً للمؤمنين ناصراً للدين لا يمكن بحال من الأحوال أن يقدم آباءً أو أبناءً أو إخواناً أو عشيرة أو أزواجاً أو مساكن ترضى أو أموالاً تقترف أو تجارة يخشى كسادها، أو غير ذلك من المصالح الموهومة -التي هي في الحقيقة مضار إذا قدمت على دين الله- على حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد في سبيله، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:٢٣ - ٢٤].

إذاً: تربصوا وسوف يأتي أمر الله النافذ الذي لا مرد له، والله يحكم لا معقب لحكمه، وهذا تبشير لأهل الإيمان، ووعيد لأهل الكفر والنفاق والظلم والعدوان، وانتظروا {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:٢٤].