للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاجتماع بين الإيمان وموالاة الكافرين غير ممكن]

تتناقض دعوى الإيمان مع موالاة الكافرين ومظاهرتهم ومناصرتهم، بل هي موجبة -والعياذ بالله- لحبوط العمل، مستوجبة للخسران، مؤدية إلى الردة إن لم تكن هي في ذاتها ردة، قال عز وجل: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:٥٣ - ٥٦].

لقد عقب الله سبحانه وتعالى بالتحذير من الردة بعد ذكر مولاة اليهود والنصارى؛ ذلك لأن مولاتهم إما أن تكون ردة، وإما أن تؤدي إليها، وإما أن تكون من أسبابها، فإما أن تكون من الكفر الأصغر والشرك الأصغر الذي يؤدي سريعاً إلى الأكبر والعياذ بالله، وذلك بحسب نوع تلك الموالاة، فمن كان موالياً لهم بحبهم، والرغبة في انتصار باطلهم وشركهم وضلالهم، وحب ظهورهم على أهل الإسلام فإن ذلك مستوجب للكفر، بل لا يمكن أن يصدر من مؤمن أصلاً، فكيف يكون مؤمناً وهو يحب أن يظهر الكفر على الإسلام، وأن يظهر الكفار على المسلمين؟ بل إن كراهية الجهاد في سبيل الله من أوضح علامات النفاق، كما أن حب الجهاد من أوضح علامات الإيمان؛ لأن الله أوجب حبه وحب رسوله وحب الجهاد في سبيله.

وأما من يكره وجوب الجهاد في سبيل الله فإنه من المنافقين كما حكم القرآن عليه، قال تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:٨١]، فالمحبة عملٌ قلبي لا يتصور زواله من القلب إلا بزوال الإيمان، فقد يعجز الإنسان أن يكون مجاهداً بنفسه أو ماله ولكنه لا يعجز أن يكون ناصراً للدين بهمته، محباً لظهور الحق، وأما أن يوجد العكس فليس هذا دليل إلا على وجود الكفر المحض والنفاق الأكبر في القلب والعياذ بالله.

وقد عجز أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفقة ولم يجدوا ما ينفقون، لكن كيف كان حالهم؟ قال عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:٩١ - ٩٢].

وأما من يرى البعد عن نصرة الدين غنيمة، فهؤلاء الذين وصف الله بقوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء:٧٢ - ٧٣]، فالله سبحانه وتعالى جلى لنا أحوال المنافقين لكيلا يلتبس الأمر علينا، ولكيلا يشتبه إيمان بكفر بعد بيان القرآن الذي هو أوضح بيان.

وكذلك إذا كانت موالاة الكفار بالإضافة إلى محبتهم أو بدونها بنصرة الكفار على المسلمين، والمقاتلة معهم ضد أهل الإسلام، فإن ذلك موجب للردة وحبوط الأعمال بالكلية، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:٩٧].

وقد نزلت هذه الآيات في أناس من أهل مكة كانوا يحبون الإسلام ولكنهم في غزوة بدر خرجوا مع آبائهم كارهين للخروج وليسوا مكرهين؛ لأنه لا إكراه في القتل، فلا يجوز لمسلم أن يكره على قتل مسلم ولا على انتهاك حرمته، قال القرطبي رحمه الله: أجمع العلماء على أنه لا يصح الإكراه على قتل معصوم، ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، وأعظم المعصومين حرمة أهل الإسلام، فلا يجوز لمسلم أن يقول: أنا مكره على قتل أخيه أو قتال المسلمين، بل هو مأمور في قتال الفتنة بين المسلمين بأن يدق سيفه، ويكسر درعه، ولا يقاتل ويلزم بيته، فلو دخل عليه أحد بيته وهو في حال الاعتزال فليكن عبد الله المقتول ولا يكن عبد الله القاتل، ويلقي على رأسه ووجهه ثوباً لئلا يخيفه بريق السيف، ويقول كما قال خير ابني آدم: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة:٢٩].

فإذا كان هذا في مسلم يريد أن يشاركه في قتال فيه شبهة مع المسلمين، فكيف إذا كان مأموراً بقتال المسلمين لإسلامهم تحت راية كفر معلنة بالكفر، فيظهرون ما كانت تخفي قلوبهم، ويعلنون صراحة كفرهم وحربهم ضد الإسلام، وأنهم يريدون حملات صليبية متتابعة لتجتث هذه الحضارة الإسلامية بزعمهم، ويأبى الله ذلك، فقد أخبرنا بإرادتهم، وبنهاية أمرهم وأمرنا معهم، فقال عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:٣٠ - ٣٣].

فلذلك كان من يقاتل مع الكفار ضد أهل الإسلام والعياذ بالله لا يقبل عذره بالإكراه أو أنه عبد مأمور أو أنه كاره لقتال المسلمين، ولقد نزلت الآيات {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} [النساء:٩٧]، في شبان من أهل مكة خرجوا مع أعدائهم كارهين لا يريدون قتال النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلهم لمن كان يعلمهم؛ لأنهم ليسوا المقصودين في الحقيقة، ولكن كان يضرب أحدهم بالسيف فيقتل، فقد كان كثير من الأنصار أو أكثرهم لا يدري من هؤلاء إنما يسمع أسماءاً ولا يعرف أشخاصاً، وكذلك كان يأتي السهم فيقتل أحدهم، وربما رمي برمح فقتل، فقال بعض المسلمين: استغفروا لإخوانكم فإنهم كانوا كارهين، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:٩٧].

فحكم الله عليهم بجهنم والعياذ بالله، وعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم معاملة الكفار في أحكام الدنيا، فألقاهم مع من قتل من المشركين في قليب بدر، ولم يصل على واحد منهم ولم يستغفر له، ولا دفنه مع شهداء المسلمين، بل دفنه مع الكفار، وخاطب الجميع بقوله: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً)، ومن أسر من هؤلاء كـ العباس أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه وابن أخيه عقيل بن أبي طالب، واستحل منهم هذا المال، ولم يكن خروجهم برضى منهم، ولكنهم كما روي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عباس! إنكم خاصمتم فخصمتم، افد نفسك وابن أخي) وأخذ منه المال رغماً عنه، ولو كان يعامل معاملة المسلم لحرم دمه وماله، فتبين بذلك أن من خرج محارباً للمسلمين تحت راية الكافرين فإنه يكون مرتداً، وعليه كل أحكام المرتد.