للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الله رب السماوات والأرض ومن فيهن]

الحمد الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

أما بعد: المعنى الثالث من معاني الربوبية: أن الله رب السموات والأرض ومن فيهن، وهذا مذكور في قوله سبحانه وتعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:٥٤]، فكما كان المعنى الأول: الخلق والرزق والتدبير -وهو كما ذكرنا بمعنى الإصلاح الذي يربِّ الشيء، أي: يصلحه- مذكور في قوله: ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ)) فكذا كان المعنى الثالث مذكور في هذه الآية، وهو: ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ))، فلله الأمر وحده لا شريك له، وهو الذي له الأمر كوناً، وهذا أمر لا ينازع فيه عاقل، وإن كان أكثر الناس في غفلة عن أن الله إذا أمر بشيء كان {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢].

فهذه أوامره سبحانه نافذة في أقطار العوالم السفلية والعلوية، يحيي ويميت، يسعد ويشقي، يمن على من يشاء ويمنع من يشاء، يأمر بما يشاء في من يشاء، وهذا وإن أقر به أكثر الناس لساناً إلا أنهم ينازعون فيه حالاً وسلوكاً وعملاً، وذلك حين ينازعون الله سبحانه في أوامره.

وأما المعنى الثاني من هذا فهو: الأمر الشرعي، فالله له الأمر شرعاً، وهذا ما يجب أن يعتقده كل مؤمن، وهو أنه لا يأمر ولا يشرع لخلق الله جميعاً إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي شرع ما شاء، قال عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:٢١]، فمن ادعى أن لأحد أن يشرع من دون الله أو مع الله عز وجل شيئاً لنفسه أو لغيره، فقد نازع الله سبحانه وتعالى في أمره، وادعى مع الله عز وجل شريكاً، كما أن الذي يرى نفسه حراً مع أوامر الله فقد نازع الله في ملكه، فالذي ينازع الله سبحانه في أمر التشريع والتحليل والتحريم، والأمر والنهي يعتبر منازعاً لله سبحانه وتعالى في ربوبيته، كما قال عز وجل عن اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:٣١]، دلت الآية على أنهم عبدوهم لما اتخذوهم آلهة مع كونهم اتخذوهم أرباباً؛ ولذا قال: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا))، ودل الحديث على أنهم عبدوهم باعتقاد أن لهم حق تبديل الشرع، وأنهم يطاعون في ذلك فأطاعوهم، فقد جاء في الحديث أن عدي بن حاتم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسلم بعد، وعلى عدي صليب من فضة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم (أن يلقي هذا الوثن عنه، وسمعه يقرأ قوله عز وجل: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)) [التوبة:٣١]، فقال: إنا لسنا نعبدهم، قال: ألم يحرموا الحلال، ويحللوا الحرام فاتبعتموهم؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم)، وقد ورد هذا المعنى عن غير واحد من السلف في تفسير هذه الآية الكريمة، فهم لم يعتقدوا أن الأحبار والرهبان خلقوا ورزقوا ودبروا الأمر، ولم يعتقدوا أنهم يملكونهم ملك الرقيق، وإنما اتبعوهم واعتقدوا أن لهم أولاً حق التشريع، وأن لهم أن يبدلوا ويحللوا ويحرموا، بل لهم أن يبدلوا العقائد، فتارة يجتمعون فيقررون أن الله ثالث ثلاثة، وتارة يقررون أن اليهود هم الذين قتلوا المسيح، وتارة أنهم لم يقتلوه، وهكذا اعتقدوا أن لهم حق تبديل العقائد والتشريعات، فكان ذلك من الشرك في الربوبية، ولما اتبعوهم على ذلك كان شركاً في العبادة والألوهية.

ولذا يصر أهل الإيمان على اختلاف الأزمان أن الله وحده هو الحكم العدل: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٤٠].

فحين يشهد العبد ويقول: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) ويقول: اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، يستشعر هذا المعنى ضمن معاني الربوبية، ويرى حقاً لله سبحانه وتعالى عليه، وهو: أن يقبل شرعه وأمره، فله الخلق وله الأمر، ومن جعل مع الله عز وجل شريكاً في الخلق، أو الرزق أو التدبير، أو الضر أو النفع فهو مشرك، ومن جعل مع الله عز وجل شريكاً في الأمر فهو أيضاً مشرك، وكذلك من جعل مع الله سبحانه وتعالى شريكاً في الملك؛ يملك مع الله أو يملك الشفاعة على الله كان مشركاً، وهذه الأمور من أوضح ما جاءت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ولا بد أن يتحرر الإنسان من رق هذا الشرك بأنواعه المختلفة حتى يتحقق توحيده لله، وكل معنى من معاني الربوبية الثلاثة يترتب عليه أنواع من العبودية لله سبحانه وتعالى، وذلك بطريق التلازم الذي لا ينفك، فإذا شهد العبد أن الله هو الخالق الرازق المدبر، وأنه سبحانه الذي يملك الضر والنفع وحده لا شريك له، فكيف يطلب من غيره سبحانه وتعالى شيئاً من ذلك؟! وكيف يجعل مع الله آلهة أخرى؟! لذا قال عز وجل: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:٥٩ - ٦٠]، فاستدل بخلقه عز وجل للسموات والأرض على وجوب افرده سبحانه وتعالى بالإلهية وحده لا شريك له.

فكذلك من كان يعتقد أن مع الله عز وجل من يملك ويتصرف تصرف المالك فهو مشرك، فالمؤمن يرى أن الله وحده هو الملك، فيتعبد لله سبحانه وتعالى بذلك، فيرى ما بيده مما أعطاه الله أمراً لا يملكه، ولا يرى لنفسه أمراً مع أوامر الله التي بلغتها رسل الله، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:٣٦]، فهو يتصرف كتصرف العبد المملوك في ماله {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:٣٣]، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:٧]، فما بيدك من مال وأهل وولد وسلطان تتصرف فيه تصرف العبد المملوك لله سبحانه، وترجع إلى شرعه وتقبل أوامره سبحانه وتعالى {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:٥٤]، وهذه الأمور لا بد أن يشهدها العبد، ولا بد أن يستحضر معانيها في قلبه، ويفرد الله سبحانه وتعالى في كل عبادة، فيكون قوله: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) قولاً صادقاً خالصاً لله سبحانه وتعالى، صدر من قلب محب له عز وجل، خاضع له، شاهد لربوبيته، متعبد له سبحانه وتعالى بإلهيته، فيكون مقبولاً عنده سبحانه وتعالى.

وهكذا يتحقق معنى توحيد الربوبية في قلب العبد المؤمن إذا شهد هذه المعاني، وتعبد لله سبحانه وتعالى بها، فنسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا مع عباده المخلصين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة عليه يا رب العالمين! اللهم أنزل بالكفرين والمنافقين والظالمين بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم كف بأسهم عن المسلمين فأنت أشد بأساً وأشد تنكيلاً.

اللهم فرج كرب المكروبين من المسلمين في كل مكان، وفك أسر المأسورين، وارفع الظلم عن المظلومين، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم، ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى إلينا، وانصرنا على من بغى علينا.

اللهم اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، لك مطواعين، لك رهابين، لك مخبتين، إليك أواهين منيبين، تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلك سخائم صدورنا.

اللهم إنا نسألك بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيينا ما علمت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما علمت الوفاة خيراً لنا.

اللهم نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفذ، وقرة عين لا تنقطع، وبرد العيش بعد الموت، والرضا بعد القضاء، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.

اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.