للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أعمال القلوب ترفع صاحبها عند الله تعالى]

إن الذي يطلع من القرآن على حال الأنبياء يدرك كيف تتفاوت المنازل عند الله عز وجل بأعمال القلوب وأحوالها في لحظات، ويدرك أنه في أسفل السلم إن كان قد وضع رجله عليه، والذي يدرك أحوال الصالحين الذين قص الله عز وجل علينا قصصهم في القرآن، وقص علينا الرسول عليه الصلاة والسلام قصصهم يدرك ذلك، وقد كانت سيرة صحابته الكرام تطبيقاً عملياً لهذا الصلاح، والإنسان حينها يدرك كم هو صغير لا يساوي شيئاً، وأنه لا يزال في أول الطريق.

فانظر إلى ما عوتب عليه الأنبياء والصالحون في لحظات فقط مرت على قلوبهم، فعوتبوا على ذلك، كما تسمع قول الله سبحانه وتعالى عن لوط عليه السلام حين قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:٨٠]، لحظة وقع في قلبه أمراً كان غيره أولى منه، وهو أن يستحضر في قلبه أنه يأوي إلى الله عز وجل كما استشعرها نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو في الغار حين قال له صاحبه: لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدمه لأبصرنا، فقال: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠])، فإنما عوتب على ذلك بسبب بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (رحم الله أخي لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، فسبحان الله! كما يخطر بقلبك أنت من أضعاف هذا الجنس في اليوم؟ ربما عشرات المرات، والواحد منا لا يدري أنه قد أتى نقصاً، وأنه قد قصر.

ولما أحب المؤمنون في غزوة بدر العير قال الله لهم: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:٧]، فهذا مجرد خاطر خطر على قلوبهم أن تكون القافلة التجارية هي غنيمة المسلمين بدلاً من الجيش والقتال، فعوتبوا على ذلك {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:٧]، وكم يقع في قلوبنا بالليل والنهار من إيرادات غيرها أولى منها، بل قل من إيرادات فاسدة تصل إلى حد التحريم من الحسد والحقد والتباغض، وسوء الظن بالمسلمين، وتزكية النفس بما ليس فيها، ومدحها بما هي خالية عنه من الإعجاب والكبر والرياء، إلى خواطر وعزائم ربما على المنكر والمعاصي والعياذ بالله، والواحد يسير في طريقه لا يرى.

فإذا تأملت هداية القرآن وشفاءه لما في الصدور تبين لك أننا نحتاج إلى علاج طويل، وربما أكثرنا أو كلنا لم يضع قدمه على أسفل السلم الذي درجاته العالية عند الله سبحانه وتعالى، ولا يعلم عددها إلا هو سبحانه وتعالى، والدرجات عند الله كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض.

فأين نحن من علاج أمراض قلوبنا من الشبهات والشهوات؟ فرب شهوة محرمة تقع في القلب فتفسده، بل ربما مجرد خاطر بالشهوة المحرمة لا عزيمة يعد ذنباً يلام عليه الإنسان فكيف إذا كانت عزيمة؟ وكيف إذا كانت إرادة يستحضرها ويمرها على قلبه؟ أقل شيء يحرمه صاحب الخواطر الرديئة أن يحرم خواطر الإيمان، وأن يحرم ما يفيض الله عز جل على قلبه عند سماع القرآن، فكم من آية تمر عليك وأنت لم تتعظ بمواعظها؟ وكم من صلاة مررت عليها وأنت تقول: متى تنتهي السورة ليركع الإمام لننتهي من الصلاة؟ إن هذه الخواطر لربما وقعت في قلب كل واحد منا وهي تدل على النقص لا شك، وأن القلب يحتاج إلى علاج ومداواة؛ لأنه إذا تدبر القرآن فسوف ينسى هذه الخواطر، وربما يحرم لذة مناجاة الله سبحانه وتعالى في دعائه، ويحرم لذة إنبات الخير في قلبه عند تلاوة كتابه سبحانه وتعالى؛ بسبب ما وقع في قلبه من موازنات فاسدة، وتقديم أمور كان ينبغي أن تؤخر، وتأخير أمور كان ينبغي أن تقدم، ولذلك نرى حياتنا مليئة بالمشاكل؛ لأنها لم تعالج كما ينبغي بالشفاء الذي أنزله الله {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:٨٢]، ولا شك أن طبيعة الحياة التي نحياها والتي هي مليئة بأنواع الصراعات على الدنيا والتنافس عليها تؤثر علينا، ولكن لا بد لنا أن نتوقف لحظات لنعالج أمراض قلوبنا، ولنحيي هذه القلوب، ولنحصل على البصيرة التي لا يستوي من فقدها ومن حصل عليها، {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ} [فاطر:١٩ - ٢٠] فالظلمات هي: ظلمات الكفر والجهل والضلال وغضب الله سبحانه وتعالى، وتلك تحل على من هوى في غضب الله عز وجل تحل حتى لا يرى شيئاً، كما وصف الله عز وجل حال ذلك الكافر الجاهل الضال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:٤٠].

والنور هو نور الإيمان الذي أنزله الله سبحانه وتعالى، وهذا يكون في القلب كمصباح متقد من زيت شجرة مباركة، فهو نور الإيمان على نور الفطرة، {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:٣٥]، {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ} [فاطر:١٩ - ٢١]، فحال أهل الإيمان في دنياهم في ظل وراحة وسكون: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨]، وهم في ظل في قبورهم، وفي آخرتهم في ظل عرش الله عز وجل، وفي الجنة في ظلال وعيون، وفي سكون دائم وراحة وسعادة دائمة لا تدانيها ولا تشبهها سعادة، ومن وجدها يعلم يقيناً أنها تتضاءل أمامها كل لذات الدنيا، ولكنها للأسف الشديد عند أكثرنا -إن لم نكن كلنا- لا تتعدى لحظات معدودة، وبدرجات متفاوتة، ولكن بحسب ما نأخذ من هذا المعين الصافي بحسب ما نسعد، وكلما نلنا من طاعة الله سبحانه وتعالى ومرضاته، وحييت قلوبنا بكتابه سعدت هذه القلوب واطمأنت وذاقت طعم الإيمان، (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً) وأما الحرور فهو حر الكفر والعياذ بالله.

فالكفرة في دنياهم في ضنك وشقاء، وفي قبورهم في عذاب وبلاء، وفي الآخرة في حر شمس دانية من الرءوس قدر ميل، فيعرق أحدهم حتى يبلغ عرقه أنصاف أذنيه، وحتى يغرق في رشحه، ويضرب العرق في الأرض سبعين ذراعاً، وقدر قامة الرجل على قدر عمله.

وأما في النار والعياذ بالله فهو الحر الذي لا يطاق: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:٨١]، {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر:٢٢].