للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مرض الحزن]

كذلك مرض الحزن الذي حذر الله سبحانه وتعالى منه، ذلك المرض الذي يجعل الإنسان يأسى على ما فات، فيصيبه ذلك الأسى بالإحباط واليأس والشعور بالفوات، وأن كل شيء قد ضاع منه، فيلقي ما بيديه ويترك السير في الطريق، بخلاف ما إذا استبشر بفضل الله عز وجل، وعلم أن الطريق لا بد فيه من آلام، وأنه لا بد أن يصاب فيه ما قدره الله عز وجل عليه؛ فإنه حينئذ لا ينكسر ولا يبأس ولا يأسى ولا يحزن، فيعظم أمر الآخرة عنده، وتصغر كل قوى الباطل في عينيه كما صغرت في أعين الذين يظنون أنهم ملاقو الله من أصحاب طالوت -وكان فيهم داود عليه السلام- وذلك حين رأوا الجموع الكثيرة: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:٢٤٩]، هذا هو والله الاستعلاء بالحق، وهذا هو العلو بالإيمان الذي ذكره الله عز وجل، فلم تضعف نفوسهم ولم تهن، ولم تحزن ولم تبتئس؛ لأنها أيقنت بأنها ستلقى الله سبحانه وتعالى، فعند ذلك يحصل العلو بالإيمان على أهل الباطل، ولا ينكسر انكسار القلوب الذي يريده الأعداء، وأنت ترى والله أن معارك تقع في الأرض كثيرة جداً تتفاوت فيها موازين القوى، ولا تنتهي المعركة إلا لمن ثبت قلبه ولم ينكسر ولم يضعف.

وإذا ضعفت القلوب انهار كل شيء، وإذا انكسرت القلوب ضاع كل شيء، فهل هذه الانكسارات المتعددة لأهل الإسلام تؤثر فيهم؟ وما الذي يغير نظرتهم؟ وما الذي ماذا يغير الأمراض في حسهم؟ يغيره في حسهم ما أرشد إليه القرآن، فيجعل هذه الانكسارات لا تؤدي إلى انكسار القلوب، ولا إلى التنازل عن الطريق، ولا إلى التوقف عن السير، ولا إلى المساومة على المبادئ، ولا إلى التعلق بالدنيا، ولا إلى الحزن على ما ضحى الإنسان به في سبيل الله، فإن ما يضحي به الإنسان في سبيل الله هو أغلى وأعظم ما يقدمه لنفسه يدخره لآخرته، وهو الذي يعده ليوم فاقته، فهو قد بذل ما يحبه الله عز وجل في سبيله سبحانه وتعالى، بذل من نفسه وماله وجهده وأنواع لذاته كلها، بل قد بذلها، وهو مستعد أن يبذلها مرات لله سبحانه وتعالى، يغيره طريقة التفكر كما ذكرنا، والتدبر فيما أرشد إليه القرآن، والنهي عن الوهن الذي أصله حب الدنيا وكراهية الموت، والنهي عن الحزن وتعظيم ما فات الإنسان من الخسائر، يعظمه ويأسى عليه، لا، والله ما كان حزناً على أهل الإيمان أبداً أن ضحوا في سبيل الله بشيء، بل ذلك يفرح قلوبهم دائماً.

إنما تحزن القلوب الجاهلة التي لا تدري أن ما تبذله في سبيل الله هو لها، وأن ما يبقى في أيديها هو لغيرها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله! كلنا مالنا أحب إلينا من مال وارثنا، قال: فمالك الذي قدمت، ومال وارثك الذي أخرت)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، أعني بذلك: أن المؤمن لا يحزن على شيء قد أصابه في سبيل الله، وذلك لأنه يراه مكسباً ومغنماً لا مغرماً كما قال عز وجل عن مؤمني الأعراب: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة:٩٩]، فهو يراها غنيمة يكتسبها، فقد أخذ حين أعطى، وقد أخذ كثيراً حين بذل، وقد منح ووهب حين بذل وأعطى ما أمره الله عز وجل أن يعطيه، وذلك يجعله لا يحزن أبداً؛ ولذا قال بعض السلف في قول الله عز وجل عن أهل الإيمان في الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:٣٤]، والله ما حزنوا على شيء أعطوه لله عز وجل، ولكن يعنون حزن من دخل النار، فأذهب الله عنهم حزن دخول النار، وأما حزن فوات الجنة، فهو الحزن الحقيقي، فلا تحزن أخي المسلم على شيء أصابك في سبيل الله، فهذا أشرف ما يمكن أن تتعرض له، ولا تتصور أنه يمكن أن تخلو حياتك من ألم، ولا يمكن أن تخلو حياة بشر من ألم، لذلك الآيات بعدها ترشد الإنسان إلى هذه القضية، قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:١٤٠].

أترون أعداءكم مستريحين؟ أترونهم لا يصيبهم ألم ولا قرح ولا خوف؟ والله بالعكس! بل الآلام عندهم مضاعفة كما قال عز وجل: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:١٠٤]، فأنت مع مرارة الألم معك حلاوة الصبر التي تذهب هذه المرارة، وربما غبت بهذه الحلاوة عن أصل وجود المرارة، وذلك إذا قويت حلاوة الإيمان حتى تصل إلى درجة الرضا الذي لا تجد معه ألماً أصلاً، وهو موجود، لكن قد غطي وغلب عليه حلاوة الإيمان، قال تعالى: ((وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ))، نور الرجاء الذي يبدل ظلمات اليأس، ويذهب مرارة الألم.

فهل تظن أن أعداء الله ليس عندهم خوف؟ والله عندهم خوف مضاعف، خوف سببه أصلاً الشرك الأكبر والظلم، فكلما ظلم الإنسان ازداد رعباً وخوفاً قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران:١٥١].

أما المؤمن فحين يخاف فعنده ما يذهب ألم الخوف من الأمن والإيمان والاهتداء بالله عز وجل، واستشعار قرب زوال الدنيا، وأنها بأسرها سوف تنتهي قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:٨٢].

وقال عز وجل على لسان إبراهيم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:٨١ - ٨٢].