للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة يوسف وما فيها من الانكسار والتوبة]

تأمل في قصة يوسف عليه السلام وإخوته حين قال إخوة يوسف في بداية عزمهم على الذنب والجريمة التي ارتكبوها: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:٩]، فقد عزموا على التوبة ولكنهم لم يرزقوها، ولم يتب الله سبحانه وتعالى عليهم سنين طوالاً أكثر من أربعين عاماً أو نحواً من أربعين عاماً؛ لأنهم لم ينكسروا لله، وإنما رزقوا التوبة لما ذلوا ذلاً شديداً، حتى أوقعهم الله في ذل المسألة والحاجة، {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ * فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} [يوسف:٧٨ - ٨٠]، فكانت بداية التوبة، فهذا الذي أصابهم حين شعروا بأنهم فرطوا في حق يوسف، وقبل ذلك كان الحقد يملأ قلوبهم، وكانوا ما زالوا يحقدون على يوسف حتى قالوا: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:٧٧]، لكن لما يئسوا من أن ينجو أخاهم وقد أخذ أبوهم عليهم موثقاً من الله وانكسروا كان ذلك بداية التوبة.

ثم زادت الكسرة بغضب أبيهم وحزنه حتى ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم، وخشوا عليه الهلاك، وشعروا بمدى التقصير، وزاد الأمر بالفقر وشدة الحاجة حتى قالوا: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف:٨٨]، كلها أنواع من الانكسار، وشعروا بعزة هذا العزيز فخاطبوه بهذه الكلمة: ((يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ))، وشعروا بذل الضر الذي أصابهم، ((مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ))، وذل الأهل ذل إضافي إلى حاجة النفس وضرورتها ((وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ))، ليس عندنا ما يقابل عطاءك، وإنما يسألون عطاءً بلا مقابل، بضاعتهم بائرة لا تنفق في السوق، ولا تباع إلا بالبخس، مثل غروب وحبال ودلاء، وليس عندهم شيء يبيعونه ولا يستبدلونه حتى يأتون بالطعام، وإنما يرجون الكرم؛ ولذا قالوا: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}، ذل المسألة والحاجة لينكسروا؛ فلما وقع ذلك تاب الله عليهم، فكان هذا بداية الفرج عليهم، وكان ذلك سبب توبة الله سبحانه وتعالى عليهم بالإضافة إلى الاعتراف، {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:٨٩ - ٩٢]، وكانت هذه التوبة بعد مدة طويلة؛ لذا نقول: إن الذي يتجرأ على الذنب ويقول: سوف أتوب بمجرد أن أفعل الذنب هذه المرة ثم أتوب، غالباً لا يرزق التوبة، وإنما يرزق التوبة من شهد انكساره وذله وضعفه أمام نفسه الأمارة بالسوء، وشهد عزة مولاه وكماله وغناه، وأنه لا يحتاج إلى طاعته، قد مضت ركائب المطيعين وهو المتخلف، وقد عبد الله سبحانه وتعالى العابدون وهو النائم الكسلان، وقد أطاع الله سبحانه وتعالى الطائعون وهو الذي ترك هذه الرفقة الصالحة، فعندما يرى نفسه كذلك يعترف بذنبه، فعند ذلك يقبله الله سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه وتعالى: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:٢٢٢].