للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصر الدنيا بالنسبة للآخرة]

اعلموا عباد الله أنكم ملاقو الله سبحانه وتعالى، وأعدوا للقاء الله عز وجل عدته، فهي لحظات طويلة، فكم يبلغ يوم القيامة من السنين؟! وكم تساوي حياتنا بالنسبة لها؟ فقد قال تعالى عن طوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:٤]، فلنتدبر هذه الكلمة جيداً {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة:٥].

إن عدد الأيام من أيام الفراعنة إلى اليوم يقولون: سبعة آلاف سنة.

فكم من الأديان مرت خلال هذه الفترة؟ وكم من الأحداث على الأرض وقعت؟ إن تاريخ البشر المعروف لا يتجاوز عشرة آلاف سنة على أي حال من الأحوال، والله سبحانه وتعالى يخبر فقط عن يوم القيامة أنه خمسون ألف سنة، فكم تساوي متع الحياة التي يتنافس الناس فيها، والتي من أجلها يقتل بعضهم بعضاً، ويسفك بعضهم دماء بعض، ويغتاب بعضهم بعضاً، وينم بعضهم على بعض، والتي تقطع فيها الأرحام، ويفسد من أجلها في الأرض؟ فكم تساوي هذه اللذات المشوبة بالنغص والنكد؟ فإنه لا تسلم لأحد لذة منها إلا ومعها ما ينكدها، ولو لم يكن إلا الملل منها بعد حصولها لكفى به منغصاً، فما من لذة من اللذات إذا ذاقها الإنسان إلا وشعر بالزهد فيها، وعدم الرغبة فيها، وحب التحول عنها، وأما اللذة التي لا يتحول المرء عنها فهي في الجنة فقط، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:١٠٧ - ١٠٨].

وأما لذات الدنيا مثل الطعام الذي تشتهيه وتحبه وأنت جائع فإذا أكلت منه لقيمات شبعت منه وقلت: لا أستطيع الزيادة، ولا أريد المزيد منه، وكذا الشراب تشرب مرة أو مرتين ثم تزهد فيه، وكذلك الشهوة الجنسية لحظات وثوان معدودة ثم يزهد بعدها الإنسان ويرغب في غيرها، ولا يريد البقاء فيها! وكذلك لذة الملك، لا تأتي إلا بالكرب والغم والخوف والقلق والصراعات والنزاعات بما لا يتمتع معه بشيء من أمور الحياة.

إن هذه الحياة لا تخلو من ألم، ولابد فيها من شقاء وألم بحكم وجودنا في الأرض، فإن خروجنا من الجنة ترتب عليه شقاؤنا، قال تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:١١٧].

ومع ما في الدنيا من لذات إلا أنها تكون مشوبة بالآلام والمتاعب والنكد والاختلاف الذي يؤدي دائماً إلى ضيق الصدر وعدم انشراحه، اختلاف بين البشر حتى في الأسرة الواحدة يقع ذلك كله، فكم تساوي لذة الدنيا هذه؟! ومع ذلك فالإنسان يبقى ثلث حياته نائماً لا يشعر بشيء، وثلثها الأخير أو ربعها الأخير بعد الأربعين أو الخمسة والأربعين أو الخمسين تدب إليه الأمراض، فيعاني منها أنواع المعاناة، وأمراض الشيخوخة لا يكاد يسلم منها إلا أفراد من الملايين، وإلا فالأكثر تصيبه الأمراض والآلام، وما بين ذلك أيضاً طفولة مليئة بالبكاء، فأول ما يبدأ به الإنسان في الحياة البكاء، ويظل يبكي طوال حياته، وإن ضحك قليلاً فإنه يبكي كثيراً.

وكم تساوي الدنيا في يوم القيامة في أهواله العظيمة؟ وإننا لو قارنا هذه الحياة بفترة البرزخ فقط لكان الميزان لصالح ما بعد الحياة، ولذا لا تكون الحياة الدنيا حياة فيقول الإنسان يوم القيامة كما قال تعالى: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:٢٤]، وقال عز وجل: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:٢٥ - ٢٦]، فلا يعذب مثل عذاب الله أحد، ولا يوثق مثل وثاق الله أحد، هذا الوثاق الذي يقيد به الأسرى، وتعصب به أعينهم، ويقيدون به خلف ظهورهم كم هو مؤلم، فتخيل قول الله عز وجل: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:٧١ - ٧٢]، فهذه الأغلال ليست في الأيدي فقط، وإنما هي في الأعناق مع الأيدي والأرجل، كما قال تعالى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:٤١]، فتجمع قدمه إلى ناصيه في سلسلة واحدة، قال عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:٢٥ - ٢٧]، أي: ليت الموتة التي متها كانت القاضية ولم أبعث: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:٢٨ - ٢٩] أي: هلكت عني حجتي أو أصحاب السلطان الذين كان لهم سلطان في الدنيا يقولون يوم القيامة: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:٢٩]، فيقول الله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:٣٠]، فإذا قال الله عز وجل: (خذوه) ابتدرته الملائكة أسرع من البرق يأخذون هذا الذي أمر الله أن يؤخذ، وقوله: (فغلوه) أي: اجعلوا الأغلال في عنقه.

قال تعالى: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:٣١]، الناس يخافون من أن يحبسوا في سجون يأكلون فيها ويشربون، وينامون على أرض ليست بنار، ويتغطون بغطاء ليس بنار، ويلبسون ثياباً ليست من نار، قال بعض السلف: لو توعدني الله أن يحبسني في الحمام لكان والله أجدر بنا أن نخاف وأن نرعب من هذا، فكيف وقد توعدنا أن يحبسنا في نار جنهم نعوذ بالله من النار؟! {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:٣٢] فلا يقيد بها فقط، بل يسلك فيها أي: تجعل السلسلة في فمه، وتدخل في أمعائه حتى تخرج من دبره مثل الطيور التي تشوي، ويجعل فيها ذلك السيخ الحديدي، فهذا الكافر يسلك في السلسلة كما تسلك حبات العقد في سلكه نعوذ بالله من ذلك! {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:٣١ - ٣٦]، وهو غسالة جروحهم والعياذ بالله {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:٣٧].

نعوذ بالله من ذلك.