للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[صفة الجنة]

الحمد الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

أما بعد: يطلب الإنسان السعادة، ويطلب اللذة، ويريد ما تشتهيه نفسه، ولكن لا لذة في هذه الدنيا تبقى، بل كل شيء فيها يفنى، فنعيمها إلى زوال، وألمها إلى زوال، وإنما العاقل من يطلب نعيم الجنة، فالجنة حق والنار حق.

وقد أخبرنا الله عز وجل أن نعيم أهل الجنة أعظم نعيم من كل شيء، وقد ادخر الله عز وجل: (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ومصداق ذلك قوله سبحانه وتعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:١٧].

وقد جعل الله سبحانه وتعالى أعظم نعيم أهل الجنة النظر إلى وجهه سبحانه وتعالى، وهو الزيادة على الجنة المذكور في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦] فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه: (النظر إلى وجه الله عز وجل)، وقال سبحانه وتعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:٣٥]، وقد فسره غير واحد من الصحابة والتابعين والسلف: بأنه النظر إلى وجه الله عز وجل، وقال سبحانه وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:٢٢ - ٢٥]، فهي باسرة أي: عابسة خائفة مرتعبة، وهي وجوه الكفار، (تظن) أي: أيقنت وعلمت أنها سيفعل بها ما يكسر فقار ظهرها، فهي سوف تقيد، وسوف تحبس، وسوف تدخل النار فتصيبها الفواقر التي تكسر فواقر ظهرها، هذه هي الفاقرة عياذاً بالله.

أما أهل الإيمان فإن وجوههم قد أتتها نضره عظيمة من نظرها إلى وجه الله، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢ - ٢٣]، وقال سبحانه وتعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:٨ - ١٠] أي: شديداً {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:١١]، وإنما أتت النضره للوجوه من نظرها إلى وجه الله عز وجل، وإنما سرت النفوس لما علمت برضا ربها سبحانه وتعالى عنها، فهو فوق نعيم الجنة كلها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل لأهل الجنة: يا أهل الجنة! تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟! ألم تبيض وجوهنا، وتدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟! فأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً).

وفي الحديث الآخر: (فيسألون النظر إلى ربهم فيرفع الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه الله سبحانه)، فلا يكون النعيم نعيماً إلا بالقرب منه سبحانه وتعالى، وبالنظر إليه سبحانه، وذلك لمعرفة العبد بأن الله قد رضي عنه، وقال سبحانه وتعالى: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:٥٤ - ٥٨]، فربهم الرحيم سبحانه هو الذي رحمهم تلك الرحمة الخاصة، فرحمهم في الدنيا بالهداية والتوفيق للإسلام، ورحمهم في قبورهم بأن فتح لهم أبواباً إلى الجنان، ورحمهم في الآخرة بأن أظلهم في ظل عرشه سبحانه الرحيم الرحمن، ثم رحمهم رحمة خاصة بأن سلم عليهم وكلمهم من فوقهم بقوله: سلام عليكم يا أهل الجنة، فهذا الذي يسعد به الحزين، ويأمن به الخائف، وهو الذي يكون به نعيم الجنة نعيماً، ولا يحصل نعيم الجنة لأحد دون رضا الله عز وجل، وإنما صارت الجنة جنة بالقرب من الله عز وجل، وبرضاه سبحانه في أنها دار كرامته، ودار من رضي الله عنهم ورضوا عنه، وهي لا تحصل إلا لمن أطاع الله عز وجل بتوحيده واتباع رسله، وترك الشرك والكفر بما يعبد من دون الله، والكفر بالطاغوت: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:١٧ - ١٨].