للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم المقاطعة التجارية]

إن البيع والشراء مصلحة، والإجارة والاستئجار مصلحة، ويمكننا أن نقاطع البيع والشراء، ويمكننا أن نبيع ونشتري، فقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمرين، وهذا حسب المصلحة، فإن ثمامة بن أثال رضي الله تعالى عنه كان قد أسرته خيل المسلمين مشركاً قبل إسلامه، فجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فربطه في المسجد؛ ليغير وجهة نظره عن الإسلام، بصحبة المسلمين ورؤيتهم في أثناء عبادتهم، وقد كان أبغض شيء إليه هذا الدين، فحبسه ثلاثة أيام، ففي اليوم الأول قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن تسأل المال تعط منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه في اليوم الثاني فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك يا محمد: إن تمنن تمنن على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن تسأل المال تعط منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان في اليوم الثالث قال له مثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة).

فمنَّ عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأحسن إليه، وكان ثمامة قد تغير في هذه الأيام الثلاثة، فانطلق ثمامة رضي الله عنه ولم يكن قد أسلم عند ذلك، وأبى أن يسلم وهو في الأسر، فأطلقه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من الإحسان والمن والبر به، من غير فداء، ومن غير قتل، فانطلق إلى أقرب بستان فيه ماء فاغتسل وعاد إلى المسجد، فشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (والله يا رسول الله! ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فصار أحب الدين إليَّ، وما كان من وجه أبغض إلي من وجهك، فصار أحب الوجوه إلي، وما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فصارت أحب البلاد إليَّ).

انظر كيف يفعل الإسلام بمن يخالفه، فـ ثمامة لم يكن قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ولا سكن ببلده، ولكن حبس ثلاثة أيام في المسجد، فتغير كل شيء عنده، وصار أحب شيء إليه الإسلام، ووجه النبي عليه الصلاة والسلام، وبلد النبي عليه الصلاة والسلام، ثم إنه اعتمر فقيل له: صبأت وتابعت محمداً، فقال: بل أسلمت لله عز وجل، ووالله لا تأتيكم حبة من سمراء اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان ثمامة سيد بني حنيفة، فنهى عن بيع القمح وقاطعهم مقاطعة شديدة حتى أكلوا الوبر والعلهز، وحتى أكلوا فضلات الحيوانات وأكلوا الميتة، حتى راسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناشدونه الله والرحم أن يأذن لـ ثمامة في أن يرسل إليهم الميرة من القمح؛ لأنهم قد جاعوا، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالبيع والشراء، وامتنع عندما كانت المصلحة في ذلك.

فالعبرة بالمصلحة، فما دام البيع حلالاً، ولم يكن فيه إعانة على معصية فهو جائز، أما إذا كان فيه إعانة على معصية كمن يبيع العنب لمن يتخذه خمرًا، أو يبيع السلاح في الفتنة، أو يبني لهم كنيسةً أو معبداً، أو يؤجر لهم ما يستعملونه في المنكر والعياذ بالله، أو يعينهم على شيء من كفرهم وباطلهم، فإن هذا من المحرمات، قال تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:٢]، وربما دخل في الكفر والعياذ بالله إذا كان مقراًً بكفرهم.