للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الابتلاء سنة ماضية لله عز وجل في عباده المؤمنين]

قال: (أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى)، فقد عرف الراهب هذا الأمر؛ لأنه سنة ماضية، وليس كشفاً للغيب، فكل من سلك طريق الإيمان -وخصوصاً طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى- فلا بد أن يبتلى، قال عز وجل: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:١ - ٣]، وقال عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:٢١٤]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)، وقال عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل).

وهذه السنة الكونية أخبر الشرع بها، والبلاء قد يكون بالشدة، وقد يكون بالرخاء، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:٣٥]، وفائدة معرفة هذه السنة الكونية هي جعل المؤمن على استعداد لمواجهة البلاء، فيوطن النفس بذلك على الصبر والرضا، ويبعدها عن اليأس عند وقوع البلاء، فالمسلم يعرف أن البلاء موجود، فإذا وقع فلا ييأس، وربما قد يطول، وقد تكون الأمور شاقة، فإذا وطنت نفسك على تحمل المشاق، وإذا وطنت نفسك عند الرخاء ألا تغرك الحياة الدنيا بزخرفها، وأن تكون على حذر من الوقوع في أمواج فتنها، فإنك تخرج من البلاء معافى.

فلابد أن تعرف النفس مقدماً أن البلاء والأذى مرحلة من المراحل التي لابد أن تمر بها الدعوة والدعاة، بل والمؤمنون بصفة عامة، سواء كانوا من الدعاة أم من غيرهم، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} [العنكبوت:٢]، حتى ولو لم يكن داعية، فلا تظن أن الدعاة فقط هم الذين يبتلون، فقد تعرض هذا الراهب للابتلاء، ولكن أسبق منه في البلاء الذي يدعو إلى الله عز وجل، وبعد هذه المرحلة يكون الفرج من عنده سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:٧].

وفيه أنه ينبغي للمعلم أن يعلم تلامذته أن طريق الدعوة ليس مفروشاً بالورود والرياحين، بل هو طريق مفروش بالأشواك والآلام، وإن كانت لذة القرب من الله ومحبته والشوق إلى لقائه، مع ما ينزله عز وجل من صبر عند المصائب والبلايا، تجعل المؤمنين لا يشعرون بهذه الآلام والمحن، بل ربما يستعذبونها في ذات الله عز وجل، وهذا أمر لا يحصل إلا إذا وطن الإنسان نفسه عليه، ولم يتضجر عندما ينزل به بلاء، ولم يفر ولم يضق صدره به، ولم يترك الطريق إذا نزل به البلاء؛ لأنها سنة ماضية جعلها الله علامة تدل على صدق إيمانه أو كذبه، وهو يعلم بأن الله عز وجل إذا أخرجه منها صابراً سائراً على طريقه، مستمراً في لزوم الحق، فهذا يدل على منزلته العظيمة عند الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد)، فهذا يدلنا على منزلة هذا الأمر العظيم عند الله عز وجل.

ونجد في هذا الجزء من القصة أيضاً: أن هذا الراهب كان يعرف أنه سيقع بلاء كما ذكرنا؛ لأنه من السنن الكونية، لكن هل يطلب ذلك البلاء؟ أم يسعى الإنسان ليفر منه؟

<<  <  ج: ص:  >  >>