للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التضحية من أجل دين الله]

والله عز وجل إنما ذكر وصف أهل الكهف بالفتية ليكونوا أسوة حسنة للشباب على الدوام في الثبات على دين الله، والقيام بالدعوة إلى الله، وإن خالفهم من خالفهم، قال الله عز وجل: ((إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ))، تركوا القصور والبيوت المهيأة وأووا إلى الكهف الذي لم يتعودوا أن يعيشوا فيه، ومع ذلك رجوا في هذا الكهف الرحمة والرشد؛ لأن العادات والمساكن المرضية، والمطعم الهنيء، والملابس النظيفة، ومكان النوم المهيأ كل ذلك لا يأسر العبد المؤمن، فتحملوا أن يكونوا في كهف، وقد كانوا في قصور وبيوت مهيأة، وكانوا في مدينة، وربما تحتاج مرة أن تعيش في بيئة غير التي نشأت فيها، وفي مسكن غير الذي تعودت عليه، وفي فراش غير الذي تنام عليه لتعلم مدى الفرق بين أن يعيش الإنسان في بيت أو قصر وبين أن يبيت في كهف، ومع ذلك لم يعبئوا بذلك، ولم يكن ذلك همهم؛ لأنهم ملتفتون إلى ما هو أعظم، ما الذي يهون على الإنسان أن ينال طعاماً دون طعام، ولباساً دون لباس؟! كما قال الإمام أحمد: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وصبر أيام معدودة.

والدنيا هي أيام قليلة يمكن أن يكون للإنسان فيها طعام أقل من طعام غيره، ولباس أقل من لباس غيره؛ لكنه سوف يأخذ رزقه الذي قدره الله سبحانه وتعالى له، فما الذي يجعل الإنسان يقبل ذلك ولا يلتفت إليه؟ إنه اهتمامه بما هو أعظم وأخطر وهو أن ينال الرحمة والهداية والرشد من الله سبحانه وتعالى.

وأن يسعى في مرضات الله، وعندها يهون عليه أن يفارق القصور فضلاً عن البيوت الضيقة، وفضلاً عن الحال الذي هو في الحقيقة نوع من الضيق والكرب، والله سبحانه وتعالى إنما رغب المؤمنين في طلب الآخرة لكي لا تشغلهم الدنيا، وأما اليوم فإننا نجد أكثر الناس يقتتلون على البيوت الضيقة، ويقتتلون على المعيشة الضنكة، ويتحاسدون على أدنى أنواع اللذات والعياذ بالله! ووالله إن لذاتهم لا تساوي شيئاً عند أهل الشهوات والملذات، فإذا بالناس يحسد بعضهم بعضاً، ويقتتل بعضهم مع بعض، ويكيد بعضهم لبعض على أتفه الأمور، وإن كان أهل الأموال والدنيا هم الذين ساقوا الناس إلى هذه الغايات، وألهوهم بوسائل الإفساد عن التفكير فيما هو أهم وأعظم من أمر الآخرة، فهذا الذي دفع الناس إلا أن يتوبوا، وهم حريصون على ذلك الضنك لا يستطيعون التضحية بشيء منه على الإطلاق، فقد تكون المعيشة الضنكة من أسباب تضحيته، أما أن تجد إنساناً يعيش في ضيق وغم، وكرب وفقر، ومع ذلك لا يريد التضحية بشيء فهذا أمر عجيب! يعني: أنه يريد البقاء في المسكن الضيق الذي يعيش فيه، وإن انتقل إلى غيره لم يكن فرقاً بين مسكنٍ ضيق وبين كهف في جبل، ومع ذلك فالهمم الوضيعة هي التي جعلت الإنسان لا يريد التضحية بشيء ولا حول ولا قوة إلا بالله!

<<  <  ج: ص:  >  >>