للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[زيادة الإيمان ونقصانه]

والإيمان يزيد وينقص قولاً وعملاً عند أهل السنة والجماعة باتفاقهم على ذلك، وهذا هو الأصل الذي يرد به على الخورج والمرجئة، وفي نفس الوقت الخوارج والمعتزلة من جانب والمرجئة من جانب آخر، وذلك أن الفئتين أصل ضلالهم: إنكار زيادة الإيمان ونقصانه، فإنهم يرونه شيئاً واحداً إذا ذهب جزؤه ذهب كله، فقالت الخوارج والمعتزلة: إن الأعمال من الإيمان، وإذا ذهب بعض العمل ذهب الإيمان كله، فكفر الخوارج مرتكب الكبيرة، وتارك الواجب، وقالت المعتزلة: إنه فاسق في منزلة بين المنزلتين مخلد في النار، والعياذ بالله من هذا الاعتقاد، ولما رأى المرجئة أنه لا يمكن أن يقولوا ببقاء جزء من الإيمان وزوال جزء لعدم قولهم بزيادته ونقصانه، ورأوا الأدلة على مرتكب المعاصي والكبائر لا تخرجهم من الملة قالوا: الأعمال ليست من الإيمان؛ ولذلك يبقى الإيمان كاملاً كإيمان جبريل وميكائيل ومحمد صلى الله عليه وسلم ولو ارتكب كل المنكرات، فأتوا بهذا الضلال المبين وكلا الطائفتين في ضلال، ولو التزموا بما ثبت في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من القول بزيادة الإيمان ونقصانه لما قالوا هذا الضلال ولرجعوا عنه، والله سبحانه وتعالى صرح بالزيادة، وما احتمل الزيادة فهو يحتمل النقصان، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في النقصان (وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن)، فوصف النساء بنقصان الدين، والإيمان من الدين، ولذلك فالمرأة أنقص ديناً، والأعمال من الإيمان بلا شك، لكن لا يلزم من تركها أو من فعل المخالفات المنهية عنها زوال الإيمان بالكلية، بل يزول الإيمان الواجب بترك العمل الواجب أو بفعل الشيء المحرم، ولكن يبقى أصل الإيمان فإنه لا يزول إلا بالكفر والشرك والعياذ بالله، فإنه لا يجامع أصل الدين كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:٦٥ - ٦٦].

فاقتران الإيمان بالشرك يحبط ذلك الإيمان كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:١٠٦] فتبين بذلك أن الإيمان إذا زال بعضه لم يلزم زواله كله، بل يزول القدر الواجب منه بترك الواجب أو فعل المحرم، ويزول المستحب منه بترك المستحب، ويمكن أن ينفى الإيمان عمن ترك الواجبات فيقال: لا يؤمن من فعل كذا، وليس المقصود: أنه يكفر ويخرج من الملة أو لا يكون معه شيء من الإيمان بالكلية، لكن معناه: لا يؤمن الإيمان الكامل الواجب، أو لا يؤمن بكل الذي أوجبه الله عز وجل عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، وقال: (ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، وهو الذي قال: (يدخل الجنة من قال: لا إله إلا الله وإن زنى وإن سرق)، فدلنا ذلك على أن نفي الإيمان ليس نفياً لأصله عن الزاني والسارق، بل نفياً لكماله الواجب، وأن الأعمال من الإيمان، حتى أتى المرجئة بهذه الفظيعة التي قالوها بأن الأعمال ليست من الإيمان، وأن الإيمان يكون كاملاً في القلب مع وجود المنكرات والكبائر، وترك الواجبات حتى الأركان منها كالصلاة والصيام والزكاة والحج، فيرون ذلك كله لا ينقص الإيمان ذرة والعياذ بالله! وهذه ضلال مبين وتكذيب صريح لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى بين في هذه الآية الكريمة سبب زيادة الإيمان، وهو أن يقبل الإنسان على الإيمان، فإذا أقبل الإنسان وآمن زاده الله هدىً وإيماناً، فأنت كلما تقربت إلى الله تقرب الله منك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، وذلك مأخوذ من أن الله ذكر فعلهم أولاً منسوباً إليهم: ((إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا)) ثم ذكر سبحانه وتعالى الزيادة منسوبة إلى فعله عز وجل: ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)) ولا يظن ظان أن ذلك الإيمان أولاً كان بلا إرادة من الله أو توفيق، كلا، وإنما ذلك كان بتوفيق الله عز وجل، فالله خالق كل شيء، فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:٤٣] قال سبحانه وتعالى: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:١٧].

فالإيمان أولاً هداية من الله، ثم هناك هداية، فالعبد بين هدايتين من الله عز وجل، ولكن كما ذكرنا أنه سبحانه يدلنا على علاقة السببية بين زيادة الإيمان وبين أصله وما عليك إلا أن تقبل على الله فيقبل الله سبحانه وتعالى عليك، ويأتيك بأنواع فضله عز وجل، فهذا هو السر حيث ذكر الإيمان أولاً منسوباً إلى فعلهم (آمنوا بربهم) والزيادة إلى فعل الرب (وزدناهم هدى)، فأفعال الله سبحانه وتعالى مترتبة على ما يفعلونه، كما أن الكفار لما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، ولما ردوا الحق قلب الله أفئدتهم وأبصارهم.

{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:١١٠]؛ لأنهم لم يؤمنوا به أول مرة فجعلهم الله لا يرونه حقاً بعد ذلك، بل قلب أفئدتهم؛ حتى لا تراه حقاً، وأغلق قلوبهم بأقفال كما قال تعالى: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:٢٤]، {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:٩].

وهكذا في كل المواضع، فقد أخبر أن الطبع والغل والختم كان بسبب الأعمال، ولا مانع أن يترتب فعل الرب على فعل العبد الذي هو أثر من آثار فعل الرب سبحانه وتعالى، فاهتداء العبد أولاً هو ثمرة وأثر ونتيجة لفعل الرب عز وجل به، وهو أن الله سبحانه هداه للإيمان أولاً، والفضل له عز وجل أولاً وآخراً، قال سبحانه: ((إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)).

فإذا أردت أن تزداد هدى فأقبل على الله فسوف يثمر الله لك في قلبك مزيداً من الخير والإيمان، قال تعالى: ((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ))، فالله الذي يربط على القلوب ويقويها ويثبتها ويصبرها ويشجعها حتى لا تخاف فيه لومة لائم، وحتى تقوم بدعوة الحق، فيصغر الناس في نظر صاحب هذا القلب الشجاع الذي ليس عنده من أسباب الدنيا وأسباب الحماية ما عند الناس، ولا ما يدفع به عن نفسه، ولكن يربط الله عز وجل على قلبه فيقوم لله سبحانه وتعالى بحقه فلا يعبأ بالخلق أمامه.

(وربطنا على قلوبهم) والله عز وجل هو الذي يقلب القلوب كيف يشاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء، فأيما قلب أراد أن يقيمه أقامه، وأيما قلب أراد أن يزيغه أزاغه)، ولذلك فالعبد المؤمن دائماً ينظر إلى فضل الله سبحانه وتعالى، ويتضرع إليه بأن يثبت قلبه على دينه، وأن يربط على قلبه كما وصف الله عز وجل حال المؤمنين في غزوة بدر، فقال سبحانه وتعالى: (وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:١١]، فالله ربط على قلوب الصحابة حتى تشجعت ولم تنهار، ولم تتزلزل حين رأت الكفار، وانظر إلى الفرق بين قلوب الصحابة رضي الله عنهم وبين قلوب المنافقين في مثل هذه المعركة وغيرها من المعارك، كما قال سبحانه وتعالى عن المنافقين في غزوة بدر: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:٤٩].

فالله سبحانه وتعالى وصف حال المنافقين بأنهم ظنوا الغرور في المؤمنين، كما ذكر عز وجل حال المنافقين في سورة الأحزاب في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:١٢]، فدل ذلك على حال هؤلاء عندما يأتي الأعداء وتكون مواقف الخطر، وكيف أن الله سبحانه وتعالى يربط على قلوب المؤمنين، وتتزلزل قلوب المنافقين، ولقد منّ الله سبحانه وتعالى على المؤمنين إذ صبرهم وثبتهم، فاللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك.

<<  <  ج: ص:  >  >>