للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مدة لبث أصحاب الكهف فيه]

قال تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:٢٥ - ٢٦].

يقول: هذا خبر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله، وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان، وأنه كان مقداره ثلاثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية، وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية، فإن التفاوت ما بين كل مائة سنة قمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، فلهذا قال بعد الثلاثمائة: ((وَازْدَادُوا تِسْعًا)).

وهذا من المعجزات الظاهرة للقرآن، وهذا من أدق أنواع الحسابات والمشاهدات، وهذا أمر محسوس مشهود، إذ التفاوت بين السنة الشمسية والسنة القمرية أمر مرأي، وهناك أنواع من الأزمنة منها ما هو أمر عرفي ومنها ما هو أمر حسي، فاليوم أمر حسي؛ لأنه مرتبط بالشمس شروقاً وغروباً، الشمس تشرق ثم تغرب ثم تشرق مرة ثانية، فاليوم والليلة مرتبطان بغروب الشمس وشروقها، وأما الساعات والثواني والدقائق فهي أمر عرفي بين الناس، أن يقسم اليوم إلى أربع وعشرين ساعة، لكن هل تحدث علامة مميزة لكل ساعة في الكون؟ لا، بل هذا أمر اصطلح عليه الناس، وكذلك مثلاً أمر الأسبوع أمر عرفي؛ لأنه ليس أمراً حسياً، والشهر أمر حسي؛ لأن القمر يدور دورته كل شهر، والشتاء أمر حسي لتغير الفصول؛ لأن الشتاء يجيء كل سنة مرة، وهذا أمر ملحوظ محسوس أن الشتاء يأتي والربيع والصيف والخريف.

إذاً: هناك أمران حسيان: السنة التي هي اثنا عشر شهراً، وهما اثنا عشر شهراً قمرياً، والسنة الشمسية هي الفصول الأربعة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أحياناً يقول: (سبعين خريفاً)؛ لأن هذه تكون سنة شمسية؛ لأن الخريف يأتي الخريف بعده، هذه سنة شمسية، وهذا الأمر بينه تفاوت كل سنة أحد عشر يوماً وجزءاً من اليوم بين اثني عشر شهراً قمرياً وبين سنة شمسية، لذلك الشهور الشمسية تتغير مع القمرية، والحسابات الفلكية الدقيقة على أحدث الطرق العلمية أثبتت أن كل ثلاثمائة سنة شمسية تساوي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى هذا بهذه العبارة: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:٢٥] ولم يقل: ثلاثمائة سنين وتسع سنين كالمعتاد، لماذا قال: (وازدادوا تسعاً) هو في الحقيقة ثلاثمائة سنين، ولو حسبتوها بطريقة أخرى يزدادون تسعاً، وفيه إشارة -والله أعلم- إلى الفرق بين السنة الشمسية وبين السنة القمرية، والله أعلى وأعلم.

يقول: فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، إذاً: ثلاثمائة سنة قمرية تساوي ثلاثمائة وتسع سنين شمسية، فهذا من معجزات القرآن الظاهرة، والله أعلى وأعلم.

وقوله: ((قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)) أي: إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك علم في ذلك وتوقيف من الله تعالى فلا تتقدم فيه بشيء، بل قل في مثل هذا: ((اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)).

وكذلك إذا سئل الإنسان عن شيء علمه بالوحي وجادله غيره فيقول: أنتم أعلم بالله؟ الله أعلم سبحانه وتعالى، الله أعلم بما لبثوا، فلو جادلك أحد فيكفيك أن هذا خبر من الله عز وجل، وهو الأعلم بما لبثوا سبحانه وتعالى.

وهذه السورة متضمنة لمعجزات ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، منها: ذلك الخبر التفصيلي البين الذي يتضمن أنواع الفوائد عن قصة أصحاب الكهف، مع أن ذلك لم يكن عند العرب منه شيء قط، وكان اليهود عندهم من ذلك ما يهتمون به من الأسماء، واسم الكلب، واسم الملك الذي كان في زمنهم، وأين كان الكهف، ولم يهتموا بالفوائد العظيمة الإيمانية والعبادية والتهذيبية وسائر أنواع الفوائد التي تضمنتها هذه القصة العظيمة، وهذا السياق العربي الواضح البين الذي لا اعوجاج فيه، وهذه القصة لو كانت مترجمة لظهرت الركاكة في الترجمة كما يظهر في أي كتاب مترجم {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:١٠٣]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * {قَيِّمًا} [الكهف:١ - ٢] مستقيماً {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:٢] فهذه آيات تلو آيات للرسول صلى الله عليه وسلم في كل زمن من الأزمنة فيها تذكير لخلق الله سبحانه وتعالى بمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>