للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[لا مبدل لكلمات الله]

قال تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف:٢٧]، فالتلاوة تشمل معنيين: القراءة، والاتباع.

وهذا مذكور في آيات كثيرة في كتاب الله عز وجل، كقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:٤] فهذه الآية تدل على قراءة القرآن، وقوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام:١٠٦].

وقوله تعالى: ((إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ))، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الأمر باتباع هذا القرآن العظيم.

وقوله تعالى: ((لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لا مبدل لكلماته؛ لأن أخبارها صدق وأحكامها عدل، فلا يقدر أحد أن يبدل صدقها كذباً، وعدلها جوراً، وهذا الذي ذكره هنا جاء مبيناً في مواضع أخر كقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:١١٥]، فقوله: صدقاً يعني في الإخبار، وعدلاً في الأحكام.

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:٣٤].

لقد بين تعالى في مواضع أخرى أنه هو الذي يبدل ما يشاء من الآيات مكان ما شاء منها، كقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل:١٠١]، وقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:١٠٦]، وقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس:١٥].

وقد ذكرنا أن معنى كلمات الله في قوله تعالى: ((لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) أنها تشمل الكلمات الكونية التي خلق الله بها الخلق، فإذا قضى الله عز وجل أمراً لم يكن في إمكان أحد ولا في قدرته أن يبدل هذا الأمر، قال تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:١١٧].

وتشمل أيضاً الكلمات الشرعية فهي بمعنى لا تبدل، فما تكلم الله عز وجل به فهو كلامه أبداً، ولا يمكن أن يبطله تكذيب أحد، أو ترك أحد له، بل كلام الله هو صفته عز وجل، فلا يمكن أن يبدل الكلام الذي هو عنده.

والله عز وجل إذا بدل آية مكان آية أو نسخها فلا يعني ذلك أن الآية الأولى التي تكلم الله عز وجل بها ليست من كلامه، ولكنها كانت من كلامه لتشريع معين في وقت معين.

ومن ذلك الآيات التي يتعبد الناس بتلاوتها بعد نسخها، وحكمها قد نسخ؛ لأن هذا مما يفعله الله عز وجل.

وقوله تعالى: ((وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) فهذا القرآن لا يمكن أن يبدله الكفار، ولا يمكن أن يحرف، بل لا بد أن يظل محفوظاً، أما الكتب السماوية السابقة فقد وقع فيها التبديل والتحريف.

فالله تكلم في التوراة، وتكلم في الإنجيل سبحانه وتعالى، وكلامه لا يمكن أن يبدل، فيعلمه الناس إذا ظهر الحق، كنزول المسيح عليه الصلاة والسلام -مع أنه لا يلزم أن يعلم الناس الإنجيل- وظهور التوراة والإنجيل الحقيقين يوم القيامة، ولا يمكن أن يقع في القرآن الذي أوحاه للنبي صلى الله عليه وسلم كما وقع للكتب السماوية لأن الله يحبه.

أما الكتب السماوية الأخرى فيمكن أن ينتشر عند الناس المحرف منها، وليس ذلك بتبديل لكلمات الله، بل هي باقية عنده سبحانه وتعالى، وهي من كلامه، ولكن ابتلاهم الله بإعراضهم عن الحق، بأن جعلهم يتمسكون بالمحرف المبدل، وهم معترفون بأنه قد وقع التبديل والتحريف في كتبهم، وكل من يتأمل هذه الكتب يجزم بوقوع التبديل والتحريف فيها.

<<  <  ج: ص:  >  >>