للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تقويم الناس في ميزان الشرع وميزان الجاهلية]

قد يكون من أمرت بمجالستهم فقراء؛ فتطمع النفس إلى مصاحبة من هو من أهل المال والسلطان، والنفس تتشوق إلى ذلك وتتطلع إليه، وتفتخر به، تقول: إن فلاناً الكبير هو من أصحابي، أو من زواري، أو ممن أزورهم وممن أدخل عليهم، النفس تتطلع إلى ذلك؛ حتى إن كثيراً من الناس يزن الأمور بموازين الدنيا، من السلطان والمال والجاه والسمعة بين الخلق؛ ولهذا اقترن الأمر بصبر النفس مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، بعدم النظر إلى من هو أعلى منك مالاً وجاهاً وسلطاناً، اقترن ذلك بالنهي عن أن تتطلع العينان إلى من أعطي زينة الحياة الدنيا، والنهي عن أن تتعداهم، قال عز وجل: ((وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)).

قوله: ((وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ)) المقصود أن تتطلع النفس إلى غيرهم، وهو أن ينظر نظر المعجب إلى غيرهم من أهل الدنيا، وهذا هو الذي نهي عنه، وليس مجرد التطلع أو النظر، إنما المقصود منه ما يتبع ذلك النظر من تطلع النفس إلى زخرف الحياة الدنيا الذي أُعطيه المترفون.

وسنة الله سبحانه وتعالى أن يكون الأغلب من المترَفين من الكافرين، أو من الفاسقين والظالمين، قال سبحانه وتعالى: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:١١٦].

فالملأ دائماً ليسوا أتباعاً للدعوة في أول نشأتها، وفي فترات ضعفها؛ ولذلك يظل الدعاة إلى الله يتطلعون إلى من يقوي دعوتهم، ولا شك أن المال والسلطان والجاه والمنزلة من أعظم ما تتقوى به الدعوة، ونفوس الدعاة متتطلعة إلى التمكين للدعوة إلى الله عز وجل، فلربما من أجل ما يرون من المصلحة، وما يريدون دفعه من المفسدة تتطلع النفوس إلى بعض الطاعة، وبعض المتابعة لهؤلاء المترفين، وهذا من أعظم الخطر، ومن مزالق الأقدام، إنما هي مصالح وهمية، وتحدث مفاسد عظيمة جرّاء متابعة أهل الباطل وأهل الترف وأهل الدنيا وأهل الغفلة عن ذكر الله عز وجل، هم يريدون نشأة المجتمع أو استمراره على موازين الجهل والظلم التي هم عليها؛ ولذلك يقررون مبادئ وقواعد توزن بها أعمال الناس تخالف شرع الله عز وجل، ويعظمون ما حقره الله، ويحقرون ما عظمه الله، فهم لا يلتفتون مثلاً إلى العلم والإيمان، وإنما يلتفتون إلى السلطان والمال كما ذكرنا، يلتفتون إلى نوع الملبس والمركب والمطعم، فيكون ذلك عندهم عظيماً، فمن كان عنده من ذلك الشيء الكثير كان عندهم مقدماً محترماً، حتى ولو كان من أفسق الفاسقين.

وأنت ترى هذه الموازين في مجتمعات الشرق والغرب موازين مقدسة عندهم لا تُمَس، وهي مدنسة في الحقيقة؛ لأنهم يرون أهل الفجور والفسق من أهل الفن والغناء واللهو واللعب هم المشاهير والعظماء؛ الذين تفتح لهم الأبواب، وهم الذين يقدمون في المجالس ويستشارون في الأمور، ويقدمون على غيرهم في مهمات المجتمع، وهذا دليل على غفلة القلوب عن ذكر الله، وهم لا يعتبرون الإنسان الذي عنده من الإيمان والدين والعلم ما عنده؛ لأنه ليس له وضع في دنياهم كما يقولون ويزعمون.

هذه موازين الجاهلية، بل عامة مجتمعات الأرض مبنية على هذه الموازين، ولذلك فقبول هذه الأفكار بزعم المصلحة، والرغبة في التمكين للدين؛ من أعظم ما يؤدي إلى تمييع القضية وإلى تشويه الدين وانحراف الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>