للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حصول النصر بعد البلاء، وجزاء من قطع الطريق لأجل الفاحشة]

وحين نتأمل في هذه القصة نجد أن البلاء يشتد ليحصل الانفراج من حيث لا ندري ولا نشعر، فالله سبحانه وتعالى أرسل الملائكة نصرة للوط، وإهلاكاً لقومه، وتدميراً لهم، فأرسلهم في صور بشر، وفي هذا امتحان شديد للوط عليه السلام؛ فإنهم جاءوه في صورة رجال شبان من أحسن الناس وجوهاً، يطلبون ضيافته، ولم يخبروه بحقيقة أمرهم، وكان اليوم العصيب أشد الأيام، وهو اليوم الذي سبق الفرج والنصر، وسبق إهلاك الظالمين المجرمين.

فالله سبحانه وتعالى أرسل الفرج في صورة امتحان كما ذكر سبحانه وتعالى بأن الملائكة لم يقدموا عليه في صورة ملائكة يطمئنونه، بل جاءوه يطلبون ضيافته، وهو يعلم عجزه عن حمايتهم وعجزه عن دفع قومه عنهم، وقد نهوه عن العالمين، ومنعوه أن يضيف أحداً؛ لأنهم كانوا يقطعون السبيل لنيل الفاحشة، ويأتون في ناديهم المنكر والعياذ بالله! وهذا أظهر ما قيل في تفسير قوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:٢٩].

ويمكن أن يكون قطعهم السبيل لأجل أخذ الأموال فهو قطع سبيل، ولكن نيل الفاحشة أشد منه، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم: في أن من شهر السلاح ليعتدي على أعراض الناس فليس زانياً فقط، بل هذا يتحتم قتله ولا يطبق عليه حد الزنا فقط، بل يجب قتله؛ لأنه قاطع طريق؛ ولأن الاعتداء على الأعراض أشد على الصالحين من الاعتداء على النفس والمال، وقد قال سبحانه وتعالى في اللذين كانوا يروعون المؤمنات في المدينة: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:٦٠ - ٦١]، ولذا ذكر السدي في هذه الآية: أن من شهر السلاح للاعتداء على الفروج لم يكن له جزاء إلا القتل، وهذا هو الصحيح، وقد ذكر علماء المالكية مثل ذلك فيمن اعتدى على الفروج وقطع الطريق لذلك.

وفي السيرة أن الزبير رضي الله عنه كان في طريق مع جارية له في سفر أو نحوه فمر به لصان فسألاه المال، وكان الزبير رضي الله عنه من أشجع الفرسان، فهو حواري النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذهب منفرداً إلى بني قريظة وقت خيانتهم، وخرق جيش الروم في اليرموك مرتين ذهاباً وإياباً، فهذان اللصان سألاه المال، فأعطاهما المال، ثم قالا له: خلَّ عن الجارية، فرفع السيف وضربهما ضربة واحدة، فقتلهما، فإنهما لما سألاه أن يترك جاريته لينالا الفاحشة منها قتلهما، والدفع عن العرض واجب باتفاق أهل العلم بقدر الإمكان.

والمقصود: أن قوم لوط نهوه أن يضيف أحداً؛ ليتمكنوا من نيل الفواحش من المارين بهم، وكانوا يفعلون الفواحش علناً والعياذ بالله! وكانوا يأتون في ناديهم المنكر، ويكشفون عوراتهم علناً، كهذه النوعية التي ترى في زماننا من عبيد الشهوات في المجتمعات المنحطة التي يكثر فيها هذا الفساد، فإنهم يفعلون هذه الفواحش أمام الناس والعياذ بالله! بل صار حالهم أسوأ من قوم لوط لما اخترعوا آلات التصوير الحديثة، فصاروا ربما يفعلون هذه الفواحش أمام الكاميرات؛ لتنقل على العالم في المشارق والمغارب، فنعوذ بالله من ذلك! وذلك من أفظع ما يضر بالفطرة ويضادها، فإن الله فطر الإنسان أن يستتر عند فعل هذه الشهوة، بل فطره على أنه يريد أن يستتر تلقائياً ويستر عورته، كما قال الله عز وجل عن آدم وحواء: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:٢٢]، فبحثا عن الستر تلقائياً مع أنه موجود هو وزوجته فقط، ولكن لما انكشفت العورة سرعان ما بادرا إلى سترها، وذلك هو الذي فطر الله العباد عليه، وقد أنزل الله علينا لباساً يواري سوءاتنا، فالتعري أمام الناس فتنة عظيمة شيطانية كما أخبر الله عز وجل، عن ذلك فقال: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:٢٧]، فإبليس هو الذي يريد ذلك التبرج والعري والفساد علناً، وقد فعلت الفواحش أمام الناس، وأمام الملايين في هذا الزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فالمقصود: أنهم كانوا يأتون كل ذلك فأتى الفرج في صورة امتحان وبلاء؛ كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:٧٧]، فجاءت الرسل لوطاً في صورة رجال، وقد بين الله عز وجل شدة حال لوط في ثلاثة هموم: فقد ساءه وجودهم، وساءه أن يأتيه ضيوف مع كرمه وإحسانه؛ لعجزه عن الدفاع عنهم، كما قال تعالى: ((سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا) فضاق صدره ولم يحتمل: ((وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ)).

فانظر إلى الشدة التي كان فيها في هذا اليوم الذي كان سابقاً بيوم واحد على يوم النصر والتمكين وهلاك الظالمين، فإن أشد ما تكون الأمور ضيقاً قبيل انفراجها، كما أن من يريد أن يرمي سهماً إلى أعلى يشد الوتر إلى أسفل جداً ثم يتركه فينطلق ليرتفع أعلى ما يمكن، ولو شده شداً ضعيفاً لارتفع ارتفاعاً ضعيفاً، وسنة الله عز وجل أن أشد الناس بلاءاً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وكلما كان في الرجل ثباتاً في الدين زيد في بلائه، والله سبحانه وتعالى عليم حكيم.

<<  <  ج: ص:  >  >>