للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ذكر الروايات المختلفة في تفسير قصة أصحاب الأخدود]

ذكرت قصص أخرى في تفسير قصة أصحاب الأخدود فيها اختلاف عن حديث صهيب الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، ومن ذلك ما ذكر ابن كثير رحمه الله عن علي أنهم أهل فارس حين أراد ملكهم تحليل تزويج المحارم، فأنكر عليه علماؤهم، فعمد إلى حفر أخدود، فقذف فيه من أنكر عليه منهم، فاستمر فيهم تحليل المحارم إلى اليوم.

وعنه: أنهم كانوا قوماً باليمن، اقتتل مؤمنوهم ومشركوهم، فغلب مؤمنوهم على كفارهم، ثم اقتتلوا فغلب الكفار المؤمنين، فخدوا لهم الأخاديد وأحرقوهم فيها.

وعنه: أنهم كانوا من الحبشة.

وعن ابن عباس قال: هم ناس من بني إسرائيل خدوا أخدوداً في الأرض، ثم أوقدوا فيه ناراً، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء، فعُرضوا عليها، وزعموا أنه دانيال وأصحابه، وهكذا قال الضحاك بن مزاحم.

وروى الترمذي بسند صحيح عن صهيب قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر همس-والهمس: في بعض قولهم تحريك شفتيه كأنه يتكلم- فقيل له: إنك -يا رسول الله! - إذا صليت العصر همست، قال: إن نبياً من الأنبياء كان أعجب بأمته، فقال: من يقوم لهؤلاء؟ -يعني: من يقف أمامهم؟ - فأوحى الله إليه أن خيَّرهم بين أن أنتقم منهم، وبين أن أسلط عليهم عدوهم، فاختاروا النقمة فسلط الله عليهم الموت، فمات منهم في يوم سبعون ألفاً، قال: وكان إذا حدث بهذا الحديث، حدث بهذا الحديث الآخر قال: كان ملك من الملوك، وكان لذلك الملك كاهن يتكهن له، فقال الكاهن: انظروا لي غلاماً فهماً، أو قال: فطناً لقناً، فأعلمه علمي هذا)، فذكر القصة بتمامها وقال في آخره: يقول الله عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:٤ - ٥]، حتى بلغ ((الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) قال: فأما الغلام فإنه دفن، فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل، ثم قال الترمذي: حسن غريب.

قال وهذا السياق ليس فيه، وأن سياق هذه القصة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ المزي: فيحتمل أن يكون من كلام صهيب الرومي، فإنه كان عنده علم من أخبار النصارى، لكن الإمام مسلم والإمام أحمد صرحا بالرفع، وهي زيادة ثقة، وسياق القصة يختلف عن سياقات النصارى في قصصهم، والصحيح أنها مرفوعة، إلا أن رواية مسلم وأحمد ليس فيها تصريح بأن هؤلاء هم المذكورون في القرآن، حيث لم يقل: فأنزل الله أو فقال الله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:٤]، لكن رواية الترمذي فيها التصريح بأن هذه الآيات في شأن هذه القصة، والله أعلم.

يقول ابن كثير: وقد أورد محمد بن إسحاق بن يسار هذه القصة في السيرة بسياق آخر عن محمد بن كعب القرظي قال: وحدثني أيضاً بعض أهالي نجران عن أهلها: أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها قريباً من نجران -ونجران هي القرية العظمى التي إليها جماع تلك البلاد- ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزلها فيمون ولم يسموه لي بالاسم الذي سماه ابن منبه قالوا: نزلها رجل فابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي فيها الساحر، وجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر.

فبعث التامر ابنه عبد الله بن التامر مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من عبادته وصلاته، وهنا سمى الغلام عبد الله بن التامر، والله أعلم.

قال: فجعل يجلس إليه، ويسمع منه حتى أسلم، فوحد الله وعبده، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام، حتى إذا فقه فيه، جعل يسأل عن الاسم الأعظم، وكان يعلمه فكتمه إياه، وقال له: يا ابن أخي! إنك لن تحمله أخشى ضعفك عنه، والتامر أبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر، كما يختلف الغلمان، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه وتخوف ضعفه فيه، عمد إلى أقداح فجمعها، ثم لم يبق لله اسماً يعلمه إلا كتبه في قدح لكل اسم قدح، حتى إذا أحصاها أوقد ناراً، ثم جعل يقذفها فيها قدحاً قدحاً، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذفه فيه بقدحه، فوثب القدح حتى خرج منها ولم يضره شيء، فأخذه ثم أتى به صاحبه، فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم الذي قد كتمه، فقال: وما هو؟ قال: هو كذا وكذا، قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع، فقال: يا ابن أخي! قد أصبته، فأمسك على نفسك وما أظن أن تفعل، فجعل عبد الله بن التامر إذا دخل نجران لم يلق أحداً به ضر إلا قال له: يا عبد الله! أتوحد الله وتدخل في ديني وأدعو الله لك فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويسلم، فيدعو الله له فيشفى، حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره ودعا له فعوفي، حتى رفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال له: أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك، قال: لا تقدر على ذلك، قال: فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع على الأرض ما به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران بحور لا يلقى فيها شيء إلا هلك، فيلقي به فيها، فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه قال له عبد الله بن التامر: إنك والله لا تقدر على قتلي حتى تؤمن بما آمنت به وتوحد الله، فإنك إن فعلت سلطت علي فقتلتني، قال: فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن التامر ثم ضربه بعصاً في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، وهلك الملك مكانه، واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن التامر، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم عليه السلام من الإنجيل وحكمه، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث، فمن هنالك كان أصل دين النصرانية بنجران.

قال ابن إسحاق: فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن عبد الله بن التامر، فالله أعلم أي ذلك كان.

قال: فسار إليهم ذو نواس بجنده فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك أو القتل، فاختاروا القتل، فخد الأخدود، فحرق بالنار، وقتل بالسيف، ومثل بهم، حتى قتل منهم قريباً من عشرين ألفاً، ففي ذي نواس وجنده أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:٤ - ٧]، الآيات.

هكذا ذكر محمد بن إسحاق في السيرة: أن الذي قتل أصحاب الأخدود هو ذو نواس، واسمه زرعة، ويسمى في زمان مملكته بـ يوسف وهو ابن بيان أسعد أبي كريب، وهو تبع الذي غزا المدينة، وكسا الكعبة، واستصحب معه حبرين من يهود المدينة، فكان تهود من تهود من أهل اليمن على يديهما كما ذكره قال ابن إسحاق مبسوطاً، فقتل ذو نواس في غداة واحدة في الأخدود عشرين ألفاً، ولم ينج منهم سوى رجل واحد يقال له: دوس ذو ثعلبان، ذهب فارساً وطردوا وراءه فلم يقدروا عليه، فذهب إلى قيصر ملك الشام، فكتب إلى النجاشي ملك الحبشة، فأرسل معه جيشاً من نصارى الحبشة يقدمهم أرياط وأبرهة، فاستنقذوا اليمن من أيدي اليهود، وذهب ذو نواس هارباً فلجج في البحر فغرق، واستمر ملك الحبشة في أيدي النصارى سبعين سنة، ثم استنقذه سيف بن ذي يزن الحميري من أيدي النصارى لما استجاش بكسرى ملك الفرس، فأرسل معه من في السجون فكانوا قريباً من سبعمائة، ففتح بهم اليمن، ورجع الملك إلى حمير.

وقال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أنه حدث أن رجلاً من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجته، فوجد عبد الله بن التامر تحت دفن فيها قاعداً واضعاً يده على ضربة في رأسه ممسكاً عليها بيده، فإذا أخذت يده عنها تفجرت دماً، وإذا أرسلت يده ردت عليها فأمسكت دمها، وفي يده خاتم مكتوب فيه: ربي الله، فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبره بأمره، فكتب عمر إليهم أن أقروه على حاله وردوا عليه الذي كان عليه ففعلوا.

وروى أبو بكر بن أبي الدنيا عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: حدثني بعض أهل العلم: أن أبا موسى لما افتتح أصبهان وجد حائطاً من حيطان المدينة قد سقط، فبناه فسقط، ثم بناه فسقط، فقيل له: إن تحته رجلاً صالحاً فحفر الأساس فوجد فيه رجلاً قائماً معه سيف مكتوب فيه: أنا الحارث بن مضاض، نقمت على أصحاب الأخدود، فاستخرجه أبو موسى وبنى الحائط فثبت، قلت: هو الحارث بن مضاض بن عمرو بن مضاض بن عمرو الجرهمي أحد ملوك جرهم الذين ولوا أمر الكعبة بعد ولد ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم، وولد الحارث هذا هو عمرو بن الحارث بن مضاض هو آخر ملوك جرهم بمكة لما أخرجتهم خزاعة وأجلوهم إلى اليمن.

وهذا يقتضي أن هذه القصة كانت قديماً بعد زمن إسماعيل عليه السلام بقرب من خمسمائة سنة أو نحوها، وما ذكره ابن إسحاق يقتضي أن قصتهم كانت في زمن الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهو أ

<<  <  ج: ص:  >  >>