للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدفع إلى مزدلفة]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم يدفع مع الإمام إلى مزدلفة على طريق المأزمين].

يقال: مزدلفة ويقال: مزتلفة، بالتاء والدال؛ لأن الناس يزدلفون إليها أي: يأتون، ويقال لها: جمع؛ لأنها تجمع الناس، فهي تجمع الناس ويزدلفون إليها.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [على طريق المأزمين وعليه السكينة].

أي: مضيق الوادي بين الجبلين، يعني: بين الجبلين اللذين بين مزدلفة وعرفة.

والسنة الدفع إلى مزدلفة بعد غروب الشمس، والإكثار من التلبية حين الدفع.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم يدفع مع الإمام إلى مزدلفة على طريق المأزمين وعليه السكينة والوقار ويكون ملبياً شاكراً لله عز وجل].

بأن يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، ويكثر من الذكر كما كان في عرفة، فيستغل الوقت ويكثر من التلبية والذكر والدعاء.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإذا وصل إلى مزدلفة صلى بها المغرب والعشاء قبل حط الرحال يجمع بينهما].

السنة أن الحاج إذا وصل إلى مزدلفة صلى بها المغرب والعشاء قصراً وجمعاً بأذان وإقامتين، يؤذن ثم يقيم فيصلي المغرب ثلاث ركعات، ثم ينيخ الجمال، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن تناخ الجمال ثم قام فصلى العشاء ركعتين، ثم حط الرحال، فالسنة أن الصلاة قبل حط الرحال، لكن الإبل والدواب ينيخها بعد صلاة المغرب حتى تستريح ويحط الرحل بعد صلاة العشاء.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإذا وصل إلى مزدلفة صلى بها المغرب والعشاء قبل حط الرحال يجمع بينهما، ثم يبيت بها، ثم يصلي الفجر بغلس].

هذا هو السنة، أن الحاج يبيت بعد الصلاة ولا يسهر، حتى يكون ذلك أعون له على وظائف يوم العيد؛ لأنه بقي معه أربع وظائف يوم العيد: الوظيفة الأولى: رمي جمرة العقبة، والوظيفة الثانية: الذبح أو النحر، الوظيفة الثالثة: حلق الرأس، الوظيفة الرابعة: الطواف والسعي.

كل هذه أعمال يوم العيد وهو يوم الحج الأكبر، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء جمعاً وقصراً ثم نام عليه الصلاة والسلام كما في حديث جابر.

وظن بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أوتر، وقالوا: إنه ما أوتر في تلك الليلة، لكن هذا مجمل، ومعروف من سنته صلى الله عليه وسلم أنه نام عليه الصلاة والسلام ليستعين بذلك على أعمال النهار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني عمل أعمالاً عظيمة: رمى جمرة العقبة، ثم نحر بدنه، نحر ثلاثاً وستين بدنة بيده الشريفة عليه الصلاة والسلام، ونحر علي ما غبر وهي سبع وثلاثون، ثم حلق رأسه، ثم أفاض فطاف وسعى، كل هذا قبل الظهر، ثم أدرك صلاة الظهر في المسجد الحرام فصلى الظهر هناك، ثم رجع إلى منى فصلى بهم الظهر، واختلف العلماء في الجمع بينهما؛ لأنه في حديث جابر أنه صلى في مكة، وفي حديث ابن عمر أنه صلى في منى، والجمع بينهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أدركته صلاة الظهر في مكة فصلاها، ثم لما رجع إلى منى وجد القوم مجتمعين، فصلى بهم تلك الصلاة، فهي له نافلة ولهم فريضة.

فلذلك نام عليه الصلاة والسلام من أول الليل حتى يستعين بذلك على أعمال النهار، ثم صلى فجراً بغلس والغلس: هو اختلاط ضياء الصبح بظلام الليل، يعني: في أول وقتها، بعد ما تبين الفجر وانشقاقه؛ حتى يتسع الوقوف بمزدلفة؛ لأنه يسن الوقوف بالمشعر الحرام واستقبال القبلة والدعاء حتى قبل طلوع الشمس، ثم يدفع إلى منى، فصلى الفجر في أول وقتها حتى يتسع وقت الوقوف.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر دائماً بغلس، والغلس: هو اختلاط ضياء الصبح بظلام الليل، جاء في الحديث: (وصلاة الصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس) وأنه يصلي معه نساء متلفعات بمروطهن فيخرجن ما يعرفهن أحد من الغلس، لكن بعد تبين الفجر وتحقق طلوعه، ولكن الظلمة تبقى، خلافاً للأحناف الذين يصلون الفجر قرب طلوع الشمس، ويستدلون بحديث: (أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر).

والسنة التقديم بالصلاة بعد طلوع الفجر، ولا يزال الغلس بعد الصلاة بنصف ساعة، أو ثلثي ساعة، لكن في مزدلفة صلاها في أول وقتها من أول انشقاق الفجر، وكان قبل ذلك في غير هذا المكان يتأخر بعض الشيء، يأتيه بلال ويؤذنه بالصلاة، ثم يصلي ركعتين، ثم يذهب ويتأخر بعض الشيء، وإن كان يصليها بغلس، لكن في مزدلفة بادر مبادرة شديدة في أول الوقت، حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة في غير ميقاتها إلا صلاته بمزدلفة) يعني: في غير الميقات المعتاد، وليس المراد أنه صلاها قبل طلوع الفجر، والحديث رواه البخاري في الصحيح.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويأتي المشعر الحرام فيقف عنده ويدعو].

المشعر الحرام: جبل صغير، وهو جبل قزح، وقد بني عليه المسجد الآن، فيأتي المشعر ويستقبل القبلة، ويدعو عنده، ومزدلفة كلها مشعر، إن تيسر له أن يأتي الجبل وإلا ففي أي مكان يستقبل القبلة ويرفع يديه ويدعو؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف) وقال في عرفة: (وقفت هاهنا -يعني: تحت الصخرات وحبل المشاة بين يديه- وعرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة)، عرفة واسعة لا تضيق بالناس، ولا ليمكن لأحد ألا يقف في عرفة؛ لأن الوقوف بعرفة ركن الحج الأعظم.

يبين لهم عليه الصلاة والسلام أنه لا يجب الوقوف في هذا المكان خلف الجبل؛ حتى لا يزدحم الناس عليه فقال: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة)، ولما وقف عند الجبل في مزدلفة قال: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف) جمع: اسم لمزدلفة، سميت بهذا؛ لأنها تجمع الناس، (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف) في أي مكان من أرض مزدلفة لا يشترط أن تذهب إلى الجبل الصغير الذي بني عليه المسجد.

ونحر في منى في مكانه قرب جبل مسجد الخيف، نزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (نحرت هاهنا وفجاج مكة كلها طريق ومنحر) في أي مكان ينحر في أرض الحرم، في منى في مكة في مزدلفة أجزأه، لكن الأفضل في منى إن تيسر في داخل حدود الحرم، فلا ينحر في خارجه، فالنحر في عرفة لا يجوز، فلابد أن يكون داخل الحرم، في منى أو مكة أو مزدلفة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيقف عنده ويدعو، ويستحب أن يكون من دعائه: اللهم! كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:١٩٨ - ١٩٩]].

هذا الدعاء إذا ثبت فإنه يستحب، وإذا لم يثبت فيدعو بأي شيء.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويقف حتى يسفر جداً ثم يدفع قبل طلوع الشمس].

هذا هو السنة، أنه لا يزال واقفاً في مزدلفة حتى يسفر جداً أي: حتى يظهر الإسفار الشديد، ولكن هذا قبل طلوع الشمس، ثم يدفع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف حتى أسفر، ثم دفع قبل طلوع الشمس، فخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم هدي المشركين، وكان هدي المشركين أنهم لا يدفعون من مزدلفة حتى تطلع الشمس، وتشرق على الجبل الذي يقال له: ثبير، فيخاطبون الجبل ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فدفع قبل طلوع الشمس.

وكان هدي المشركين في عرفة أنهم يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس إذا صارت الشمس على رءوس الجبال كعمائم الرجال دفعوا، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدفع حتى غربت الشمس واستحكم غروبها وغاب القرص، فالنبي صلى الله عليه وسلم خالف المشركين في الدفع من يوم عرفة، وخالفهم في الدفع من مزدلفة.