للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم المسح على الخفين]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب المسح على الخفين.

يجوز المسح على الخفين].

المسح على الخفين من المسائل العظيمة، وهي مما يعتقده أهل السنة والجماعة، وخالف في ذلك الرافضة فأنكروا المسح على الخفين، ومذهب أهل السنة والجماعة أن المسلم إذا لبس الخفين على طهارة واكتملت الشروط فإنه يمسح عليهما، وإذا كانت الرجلان مكشوفتين فإنه يغسلهما، وأما الرافضة فإنهم أنكروا هذه السنة وقالوا: إنه يجب على من لبس الخفين أن يخلعهما وأن يمسح ظهور القدمين، وأنكروا غسل الرجلين، فقالوا: إن كانت الرجلان مكشوفتين فإنهما يمسحان، أي: يمسح ظهر الرجْل إلى مجتمع الساق، ويقولون بأنه يوجد في كل رجل كعب واحد، واستدلوا بقراءة الجر في آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة:٦]، قالوا: فالرءوس ممسوحة والأرجل ممسوحة، وقوله: ((وَأَرْجُلَكُمْ)) معطوف على ((رءوسكم)) والرءوس ممسوحة، والمعطوف على الممسوح ممسوح.

وأما أهل السنة والجماعة فاستدلوا بعده أدلة: الأول: بالسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذين نقلوا كيفية وضوء النبي صلى الله عليه وسلم غسلاً ومسحاً قولاً وفعلاً أكثر عدداً من الذين نقلوا لفظ الآية، فإذا جاز تطرق الوهم إليهم ففي جوازه في نقل الآية أولى، لكنه لا يجب، وبيان ذلك أن الصحابة كلهم توضئوا، ومن لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم منهم نقله عمن شاهده، وليس كل واحد يحفظ الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:٦].

فالتواتر في نقل كيفية الوضوء أكثر وأقوى من التواتر في نقل لفظ الآية.

الدليل الثاني: قراءة النصب في: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة:٦]، فقوله: ((وأرجلكم)) معطوفة على الأيدي والوجوه، والمعنى: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم وامسحوا برءوسكم، لكن الله أدخل الممسوح بين المغسولات لبيان وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء.

وأما قراءة الجر، فأجاب أهل السنة عنها بجوابين: الجواب الأول: أن قراءة النصب محمولة على غسل الرجلين المكشوفتين، وقراءة الجر محمولة على المسح على الخفين، فتكون القراءة مع القراءة كالآية مع الآية.

الجواب الثاني: التوسع في لفظ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:٦]، وأن المراد به المسح العام الذي يطلق في لغة العرب على الغسل، ويطلق على المسح الذي هو إمرار اليد على العضد مبلولة بالماء، كما تقول العرب: تمسحت للصلاة.

ومن الحكمة في مجيء: ((َامْسَحُوا)) في الرجلين التنبيه على أنه ينبغي تقليل الصب للماء على الرجلين؛ لأن السرف معتاد فيهما كثيراً.

فالمقصود أن الرافضة ليس لهم حجة في هذا.

وأجاب الرافضة عن قراءة النصب: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة:٦] وقالوا: إن أرجلكم معطوفة على محل رءوسكم؛ لأن محلها إذا حذفت الباء النصب، والتقدير: وامسحوا رءوسكم وأرجلكم، لكن أجيب بأن هذا غير جائز في اللغة؛ لأن العطف على المحل إنما يجوز إذا كان لا يتغير المعنى وهنا يتغير المعنى؛ لأن الباء في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:٦] للإلصاق، والمعنى: ألصقوا بأيدكم شيئاً من الماء وامسحوا بها رءوسكم، فإذا حذفت الباء صار معناها إمرار اليد على العضو بدون بلل، وإذا أتيت بالباء دلت على الإلصاق: وهو إمرار اليد على العضو مبلولة بالماء.

إذاً: فلا يصح عطف ((وَأَرْجُلَكُمْ)) على محل رءوسكم؛ حتى لا يتغير المعنى.

ثم أيضاً في الآية جعل الله الغاية إلى الكعبين {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:٦].

والقاعدة: أن مقابلة الجمع بالتثنية تقتضي أن لكل رجْل كعبين، بخلاف الأيدي فقال: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:٦] ولم يقل: إلى المرفقين، والقاعدة: أن مقابلة الجمع بالجمع تأخذ قسمة آحاد، فإذا قابلت الأيدي بالمرافق اقتضى أن في اليد مرفقاً، ولم يقل في الرجلين: واغسلوا أرجلكم إلى الكعاب، وإنما قال: ((إِلَى الْكَعْبَيْنِ))، ولو كانت الآية إلى الكعاب لصار في كل رجل فيها كعب واحد فقط، فلما قال: ((إِلَى الْكَعْبَيْنِ)) دل على أنه في كل رجل كعبان، وهما العظمان الناتئان من جانبي القدم، والرافضة يقولون: في كل رجل كعب واحد، وهو العظم الذي هو معقد الشراك في مجمع الساق والقدم.

وهو خفي وليس بواضح.

وأنكروا أن يكون في كل رجْل كعبان، وهذا باطل؛ لأن الكعب معناه البروز والظهور، وهذا إنما هو في الكعبين الناتئين من جانبي القدم، وأما ما ذكروه فلا يسمى كعباً.

وقد ذكر العلماء مسألة المسح على الخفين في كتب العقائد للرد على الرافضة، مع أنها مسألة فقهية فرعية.

وذكر الإمام مسلم رحمه الله وغيره حديث جرير: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بال وتوضأ ومسح على خفيه)، قال العلماء: وكان يعجبهم حديث جرير؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، وهذا فيه الرد على من قال: إن المسح على الخفين منسوخ بآية المائدة؛ لأن المائدة فيها الغسل، ولهذا لما سئل جرير عن ذلك قال: (وهل أسلمت إلا بعد المائدة) يعني: بعد نزول سورة المائدة.

فهذه المسألة ينبغي لطالب العلم أن يكون فيها على بصيرة؛ لأن للرافضة الآن معتقداً في مسألة المسح على الخفين فهم ينكرون المسح على الخفين، مع أن الأحاديث فيه متواترة، والأحاديث المتواترة قليلة تقدر بأربعة عشراً أو خمسة عشر حديثاً، والباقي كلها أخبار آحاد، فإن من المتواتر: أحاديث المسح على الخفين، ومنها: حديث الحوض، ومنها: حديث الشفاعة، ومنها: حديث: (من بنى لله مسجداً)، ومنها: حديث: (من كذب علي) فهذه كلها متواترة، وألحق بعضهم في المتواتر أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر.