للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ذكر أقوال العلماء في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام: (الكافر يأكل في ستة أمعاء)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر الخبر الدال على أن الإيمان والإسلام اسمان بمعنى واحد.

أخبرنا الحسين بن إدريس الأنصاري أنبأنا أحمد بن أبي بكر عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء)].

الحديث سنده صحيح على شرط الشيخين، ومن طريقه أخرجه مالك والبخاري.

ولفظ البخاري (المؤمن) بدلاً من المسلم، واستدل به ابن حبان على أن الإيمان والإسلام شيء واحد، وهذا قول لبعض العلماء، وهو اختيار البخاري، والقول الثاني: أن الإسلام والإيمان ليسا اسماً لمسمى واحد، بل يتفقان ويفترقان، فإذا ذكر أحدهما دخل فيه الآخر، وإذا اجتمعا أريد بالإسلام الأعمال الظاهرة، وأريد بالإيمان الأعمال الباطنة، كما في حديث جبريل، فقد فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة حين اجتمعا، أما إذا جاء أحدهما وحده كقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:١٩]، فإنه يشمل الإيمان والإسلام، وقوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)، لفظ (المؤمن) يشمل المؤمن والمسلم، هذا هو الصواب وهو الذي عليه الجمهور، وهو اختيار المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية.

وللحديث سابق الذكر قصة، وهي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان كافراً، فَحُلِبت له سبع شياه فشرب لبنها كله، ثم لما أسلم حلبت له شاة واحدة فشربها ولم يستطع شرب الثانية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر الخبر الدال على أن هذا الخطاب مخرجه مخرج العموم والقصد فيه الخصوص أراد به بعض الناس لا الكل].

وكأنه يريد أن الحديث السابق عن الكفار وأكلهم خاص ببعضهم لا كل الناس.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا عمر ين سعيد بن سنان الطائي بمنبج، قال: أنبأنا أحمد بن أبي بكر عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضافه ضيف كافر، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة، فشرب حلابها، ثم أخرى فشرب حلابها، حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت فشرب حلابها، ثم أمر له بأخرى فلم يستتمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن يشرب في معى واحد والكافر يشرب في سبعة أمعاء)].

قوله: (إن المؤمن) يعني: إن المسلم، وهذا هو الذي استدل به على أن الإيمان هو الإسلام.

والحديث إسناده صحيح على شرط مسلم، وهو في الموطأ ومن طريق مالك وقد أخرجه أحمد ومسلم.

وما ذهب إليه ابن حبان من أن الحديث ورد في كافر مخصوص قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى، وأبو جعفر الطحاوي، وجزم به ابن عبد البر، فقال: لا سبيل إلى حمله على العموم؛ لأن المشاهدة تدفعه، فكم من كافر يكون أقل أكلاً من مؤمن وعكسه، وكم من كافر أسلم فلم يتغير مقدار أكله، وقال غيرهم: ليس المراد ظاهره، وإنما هو مثل ضرب للمؤمن وزهده في الدنيا والكافر وحرصه عليها، فكأن المؤمن لتقلله من الدنيا يأكل في معى واحد، والكافر لشدة رغبته فيها واستكثاره منها يأكل في سبعة أمعاء، فليس المراد حقيقة الأمعاء ولا خصوص الأكل، وإنما المراد التقلل من الدنيا.

والأصل أن يحمل النص على ظاهره، والقول بأنه الكافر المعين لا يعدل إليه إلا إذا وجد الدليل على أن المراد الكافر المعين، وحينها يكون قول ابن حبان أقرب، أما مع عدم وجود دليل فالأصل حمل الحديث على ظاهره، فالحديث صريح أن الكافر يأكل في سبعة أمعاء، وفيه أن العلة: الكفر، وأن المؤمن يأكل في معى واحد والعلة: الإيمان.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر خبر أوهم عالماً من الناس أن الإسلام والإيمان بينهما فرقان.

أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة قال: حدثنا ابن أبي السري قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً، فقلت: يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مسلم؟ قالها ثلاثا) قال الزهري: نرى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل].

قول الزهري: الإسلام الكلمة، أي: النطق بالشهادتين (والإيمان العمل)، ليس المقصود أن الإسلام لا يكون إلا بالكلمة وحسب، بل مقصوده أن الكافر إذا نطق بالشهادتين حكم بإسلامه، ومراد ابن حبان أن هذا الدليل استدل به بعضهم على أن الإسلام والإيمان شيئان؛ لأن سعد بن أبي وقاص قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما أعطى رجلاً: ما لك عن فلان فو الله إنا لنراه مؤمناً، فقال: (أو مسلماً)، أي: ما بلغ الإيمان، وكررها ثلاثاً، فدل على أن الإيمان والإسلام شيئان، وهذا دليل من أدلة الجمهور على أن الإيمان غير الإسلام وأنهما يجتمعان ويفترقان.

<<  <  ج: ص:  >  >>