للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تقرير توحيد الربوبية وبيان حال من ضل فيه]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فإن علم أصول الدين أشرف العلوم وأجلها، وهو العلم بالله بأسمائه وصفاته وأفعاله، وعظيم حقه سبحانه على عباده، وقد افتتح الإمام الطحاوي رحمه الله رسالته بقوله: [نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا إله غيره].

وهو يشمل أنواع التوحيد الثلاثة التي عرفت بالاستقراء، وهي: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الإلهية.

وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات وسيلة إلى توحيد الإلهية.

وتوحيد الإلهية هو الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق، فإذا عرفنا الله بأسمائه وصفاته وأفعاله وجب علينا أن نخصه بالعبادة، وأن نفرده بها سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى فطر الخلق على الإقرار بربوبيته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فتوحيد الربوبية أمر فطر الله عليه جميع الخلق إلا من شذ من بعض طوائف بني آدم، ومشركو الأمم السابقة يعترفون بهذا التوحيد ولا ينكرونه، كأمة الهند والترك والبربر، وكذلك الأمم السابقة الذين بعث الله إليهم الأنبياء السابقين، كقوم نوح وهود وصالح، كلهم يعترفون بتوحيد الربوبية ويقرون به ولا ينكرونه، ويحلفون بالله، كما أخبر الله عن التسعة الرهط الكفار أنهم أقسموا بالله على قتل نبيهم صالح عليه السلام.

ومع كون توحيد الربوبية أمراً قد فطر الله عليه الخلق كلهم -إلا من شذ- فقد جاء أهل الكلام المتأخرين، وأهل النظر، وأهل الفلسفة، وأهل التصوف فتعبوا في إثبات هذا التوحيد وتقريره، فجعلوا يدأبون كثيراً ويتعبون، ويقررون النظريات، ويسوقون الأدلة لإثبات هذا التوحيد، مع أنه أمر فطر الله عليه الخلق جميعاً، ولهذا قالت الرسل لأممهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:١٠]، حتى الحيوانات العجماوات فطرها الله على معرفة ربها، وأن الله في السماء، وأنه في العلو، لكن الفلاسفة تعبوا في إثباته وتقريره، حتى قال بعض أهل الكلام وأهل النظر: إنه لا يمكن تقريره بالعقل، وإنما يتلقى من السمع.

وكذلك الفلاسفة -مثل ابن سينا والفارابي - تعبوا في إثبات الخالق، ويدأبون كثيراً ويصلون في النهاية إلى أن هذا الوجود له موجد يسمونه واجب الوجود، والمخلوق يسمونه ممكن الوجود، فهم يعبون كثيراً، وفي نهاية المطاف يصلون إلى أمر برز عليهم فيه عباد الأصنام والأوثان، فعباد الأصنام والأوثان معترفون بوجود الله وليس عندهم إشكال، ولا تعبوا في معرفة هذا، بخلاف الفلاسفة، فقد تعبوا كثيراً، فيقررون ويذكرون الأدلة، وكذلك أهل الكلام وأهل النظر يركبون الأدلة في هذا حتى يصلوا إلى إثبات وجود الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>