للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[أهمية توحيد الإلهية]

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد.

فإن التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو توحيد العبادة والألوهية، وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بجميع أنواع العبادة.

والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فكل ما أمر الله به وأمر به رسوله يفعله المؤمن إخلاصاً لله عز وجل وتعظيماً وخوفاً ورجاءً، وكل ما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله يتركه المؤمن خشية لله وإجلالاً وتعظيماً ومحبة ورغبة ورهبة، وهذا التوحيد -أعني توحيد العبادة- هو أول الدين وآخره، وظاهره وباطنه، وهو أول دعوة الرسل، وهو الذي وقعت بسببه الخصومة بين الأنبياء وأممهم في قديم الدهر وحديثه، وهو الذي من أجله خلق الله الجنة والنار، وافترق الناس إلى شقي وسعيد، ولأجله حقت الحاقة، ووقعت الواقعة، وقامت القيامة، فجدير بالمؤمن أن يعتني بهذا التوحيد، وأن يهتم به، وأن يعرف حقيقته ومعناه حتى يعبد الله على بصيرة؛ فإن الله سبحانه وتعالى عرف العباد بنفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله ليعرفوه سبحانه، وليعلموا عظيم حقه وليعبدوه؛ فإن توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وسيلة لتوحيد العبادة، وتوحيد العبادة هو الغاية التي من أجلها خُلِق الخلق، وهو الغاية المحبوبة لله والمرضية.

وفي توحيد الربوبية اعتراف بأن الله هو الرب الخالق الرازق المدبر، والاعتراف والإيمان بأسمائه وصفاته، فهو وسيلة إلى أن نعبده، فإذا عرفنا ربنا بصفاته وأفعاله وأسمائه وقضائه وقدره وحكمته خصصناه بالعبادة سبحانه، فتوحيد العبادة المطلوبة المرضية لله هو الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، وهو الذي أنكره المشركون، وكذب فيه الكفار رسلهم حينما أتوا به ودعوهم إلى إخلاص العبادة لله، قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:١٠٥ - ١٠٧]، فكذبوه في أنه رسول الله، وأنه جاء بتوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:١٢٣ - ١٢٥]، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:١٤١ - ١٤٣]، فكذبوه في دعوى الرسالة والنبوة، وأنه أتى من عند الله بالتوحيد وإخلاص العبادة لله والنهي عن الشرك، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:١٦٠ - ١٦٢]، وقال تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:١٧٦ - ١٧٨].

ومن كذب رسولاً فقد كذب جميع المرسلين، لذا قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:١٠٥]، مع أنهم لم يكذبوا إلا بنوح، لكن لما كان الرسل دعوتهم واحدة، والمتقدم بشر بالمتأخر، والمتأخر صدق المتقدم؛ صار من كذب واحداً كمن كذب بالجميع.

وكذلك كفار قريش أنكروا توحيد الإلهية، وكذبوا نبينا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله من إخلاص الدين لله، وإخلاص العبادة والتوحيد له عز وجل، قال الله تعالى عنهم: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:٤ - ٥]، فأنكروا أن تكون الآلهة إلهاً واحداً؛ لأن المشركين ابتلوا بوجود آلهة متعددة يعبدونها من دون الله، ونشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، وتوارثوا هذا عن آبائهم وأجدادهم، وصاروا يتبعون آباءهم وأجدادهم على الباطل، فلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله.

تفلحوا)، عجبوا! كما قال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:٤ - ٧]، فهذه هي الحجة الملعونة الشيطانية، وهي اتباع الآباء والأجداد على الباطل، واتباع القرون السابقة على الضلال، وهي حجة فرعون حينما قال لموسى: {َمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:٥١]، وهي حجة كفا قريش لما قالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:٧].

<<  <  ج: ص:  >  >>