للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شرك الاعتقاد]

النوع الثالث من الشرك الأصغر: الشرك في الاعتقاد، ومن أمثلة هذا: لبس الحلقة والخيط، ومن أمثلته: تعليق التمائم، ومن أمثلته التولة، والتطير والطيرة، فهذه كلها من أنواع الشرك الأصغر، وهذا إذا اعتقد أنها سبب ووسيلة لحفظه كما هو الغالب على من يفعل ذلك، وأن الأمر بيد الله تعالى، وأما إذا اعتقد أن الحلقة أو الخيط أو التميمة تؤثر بذاتها وبنفسها، وتجلب له نفعاً أو تدفع عنه ضراً فهذا شرك أكبر.

وأما إذا اعتقد أن النافع والضار هو الله، وأن هذه الحلقة أو الخيط أو التميمة سبب ووسيلة لحفظه فهذا شرك أصغر؛ لأنها لم يجعلها الله سبباً، فالسبب الشرعي هو الرقية الشرعية والتعوذات والأدعية وسؤال الله ودعاؤه بأسمائه وصفاته، وأما الخيط والحلقة والتميمة فكل هذه ليست أسباباً، فلم يجعلها الله أسباباً، بل هي محرمة.

وقد ثبت في الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله بسند لا بأس به عن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر -أي: من نحاس- فقال: ما هذا؟! قال: من الواهنة.

قال: انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهناً؛ فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)، والواهنة: مرض يأخذ في العضد أو في المنكب، فهذا الرجل وجد النبي صلى الله عليه وسلم في عضده حلقة من صفر -أي: من نحاس- فقال له: ما هذا؟ لماذا وضعتها؟! فقال: وضعتها لأجل الواهنة، أي: لأجل مرض الواهنة، يعني أنها وسيلة وسبب في الشفاء من هذا المرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهناً -أي: ضعفاً-، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً).

وقد ثبت عن حذيفة رضي الله عنه -كما رواه ابن أبي حاتم -: أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى -أي: وضعه من أجل الحمى-، فقطعه حذيفة رضي الله عنه وتلا قول الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:١٠٦]، فقطعه حذيفة إنكاراً لهذا من المنكر، وفي هذا دليل على أن للإنسان أن ينكر المنكر باليد إذا كان قادراً على ذلك ولم يترتب على ذلك مفسدة أكبر من المنكر الذي أنكره، فإن عجز أنكره باللسان، وإن عجز أنكره بالقلب، كما ثبت في حديث أبي سعيد الذي رواه الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، فـ حذيفة كان مستطيعاً على الإنكار باليد فأنكر وقطع الخيط، وتلا قول الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:١٠٦]، وهذه الآية نزلت في الشرك الأكبر، وإيمانهم بالله هنا هو إقرارهم بتوحيد الربوبية، والشرك هنا هو الشرك في العبادة، وقد استدل حذيفة بهذه الآية على دخول الشرك الأصغر في عموم الشرك، وفيه دليل على أن الصحابة كانوا يستدلون على الشرك الأصغر بما نزل في الشرك الأكبر؛ لدخوله في عمومه.

ومن أمثلة ذلك: تعليق الأوتار على الدواب؛ لدفع العين، فهذا لا يجوز؛ لأنه من الشرك الأصغر.

وثبت في الصحيح عن أبي البشير الأنصاري رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولاً: ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت)، وهذا إذا وضعها من أجل العين، وأما إذا جعلها في رقبة البعير أو الدابة لأجل الزينة والجمال، أو لأجل أن يقودها بها فهذا ليس من الشرك ولا بأس به، لكن إذا وضعها من أجل اتقاء العين ودفع العين فهذا من الشرك.

ومن ذلك التمائم التي تعلق في رقبة الإنسان، وأصل التميمة خرزات يعلقونها على الأطفال لدفع العين أو اتقاء العين، وهذا الذي يعلقونه قد يكون من الخرزات، وقد يكون من الحروز أو الحجب، وقد يكون من شعر الذئب أو غيره، فالتميمة التي تعلق لأجل دفع العين هي كل شيء يعلق في رقبة طفل، أو رجل، أو امرأة لأجل دفع العين وهي من الشرك، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من تعلّق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلّق وَدَعة فلا ودع الله عليه)، وفي رواية: (من تعلق تميمة فقد أشرك)، فهذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم على من علق تميمة بأن الله لا يتم له أموره، (ومن تعلق ودعة فلا ودع الله عليه) أي: لا جعله في دعة وراحة وسكون، والودَع: شيء يستخرج من البحر يشبه الصدف يعلقونه اتقاء العين، وقد تكون التميمة التي تعلق حرزاً كُتب فيه آيات من القرآن، وقد تكون من غيره، فإذا كان الحجاب أو الحرز أو التميمة التي تعلق فيها آيات من القرآن، أو تعوذات شرعية وأدعية لا محظور فيها فهذه قد أجازها بعض العلماء ورخص فيها، وقالوا: إنها آيات من القرآن، أو أدعية شرعية، فهي تعوذات شرعية، ويروى هذا عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو ظاهر ما نقل عن عائشة رضي الله عنها.

والقول الثاني: المنع من تعليق التميمة ولو كانت من القرآن، وهذا هو ما روي عن عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة، وهو مذهب الجماهير، وهو الصواب، فيمنع تعليق التميمة -وهي الحرز والحجاب- ولو كانت من القرآن أو من الأدعية الشرعية؛ لأمور ثلاثة: الأمر الأول: أن النصوص عامة ولم تخصص، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) ولم يُخص من ذلك شيء، بخلاف الرقى والتعوذات الشرعية، فإنه قد جاء فيها التخصيص، حيث جاء في الحديث الآخر: (اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً)، وفي الحديث الآخر: (لا رقية إلا من عين أو حُمة)، فدل ذلك على أن الرقية إذا لم يكن فيها محظور من شرك، وكانت بلسان عربي، واعُتقد أن الشافي هو الله فلا بأس بها، وأما إذا كانت من الشركيات، أو كانت مجهولة فهذه ممنوعة، بخلاف التمائم، فلم يأت ما يخصصها، فدل ذلك على أن التمائم ممنوعة مطلقة، سواء أكانت من القرآن أم من غير القرآن؛ لأن النصوص عامة.

والأمر الثاني: أن إباحة وإجازة تعليق التميمة من القرآن وسيلة وذريعة إلى تعليق التميمة من غير القرآن ومن الأدعية الشرعية، فالناس لا يقفون عند حد.

والأمر الثالث: أن تعليق التميمة من القرآن أو من الأدعية النبوية وسيلة إلى امتهانها، فقد يدخل بها الحمام ومكان قضاء الحاجة، وهي آيات من القرآن، وفيها اسم الله، وفيها أدعية شرعية، فيكون ممتهناً لها بذلك، فالصواب هو المنع من تعليق التميمة مطلقاً، ويجب أن تعلق القلوب بالله عز وجل ولا تتعلق بغيره.

وقد جاء عن إبراهيم النخعي أنه قال: كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن.

يعني: كان أصحاب عبد الله بن مسعود يكرهون التمائم، أي: كراهة التحريم.

وجاء عن سعيد بن جبير رحمه الله أنه قال: من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة.

يعني: من وجد إنساناً قد علق تميمة في عنقه ثم قطعها كان أجره كمن أعتق رقبة، والصواب أن من قطع تميمة من إنسان أفضل ممن أعتق رقبة؛ لأن من قطع تميمة من إنسان فقد أعتقه من الشرك، وأما إذا أعتق رقبة فقد أخرجها من الرق، وإعتاق الإنسان من الشرك أفضل من إعتاقه من الرق.

وأما التِوَلة فهي شيء يصنعونه ويزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته، فهذا من الشرك الأصغر إذا اعتقد الإنسان أنه سبب، وأما إذا اعتقد أنه مؤثر بذاته فهذا شرك أكبر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتِوَلة شرك)، فهو من الشرك الأصغر إذا كان يعتقد أنه سبب في جلب المحبة، فيحبب المرأة إلى زوجها، ويحبب الزوج إلى امرأته، فهذا من الشرك ولا يجوز استعماله، وهذا إذا اعتقد أنه وسيلة وسبب، وأما إذا اعتقد أنه مؤثر بذاته فهذا شرك أكبر، فلا يجوز للإنسان أن يعلق التميمة، ولا أن يستعمل التولة، ولا أن يلبس حلقة أو خيطاً لأجل رفع البلاء بعد نزوله، أو دفعه قبل نزوله، فيعتقد أنه سبب في رفع البلاء، فبعض الناس يلبس حلقة أو خيطاً ويعتقد أنها سبب في رفع البلاء بعد نزوله، أو دفعه قبل نزوله، وهذا غلط، فليست الحلقة والخيط سبباً، وهذا شرك أصغر إذا اعتقد أن ذلك سبب، أما إذا اعتقد أنه مؤثر بذاته فهذا شرك أكبر.

ومن الشرك في الاعتقاد: الطِّيَرة والتطير، والطيرة: اسم مصدر لـ (تطير يتطير تطيراً)، فالتطير مصدر، والطيرة اسم مصدر، مثل: تخير يتخير خيرة، والطيرة: هي التشاؤم بالمرئيات أو المسموعات، أو التشاؤم بالأشخاص أو البقاع أو الأمكنة، فكل هذا من التطير المذموم، وهو من عمل أهل الجاهلية المشركين، قال تعالى عن آل فرعون: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف:١٣١] أي: إذا أصابتهم حسنة من خصب وسعة قالوا: هذه من عند الله، وإن أصابتهم سيئة من جدب وقحط قالوا: هذا بسبب موسى ومن معه، فقد أصابنا هذا بشؤمهم، قال الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:١٣١].

وقال عن أصحاب القرية لما جاءتهم الرسل: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:١٨ - ١٩] أي: أمن أجل أن ذكرناكم ووعظناكم تطيرتم بنا؟! بل أنتم قوم مسرفون، فالطيرة من عمل أهل الجاهلية، ومن عمل أهل الشر

<<  <  ج: ص:  >  >>