للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[كفر الإباء والاستكبار]

النوع الثاني من أنواع الكفر الاعتقادي: كفر الإباء والاستكبار مع التصديق، وهو: أن يتلقى أمر الله أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بإباء واستكبار لا بتكذيب، ويكون في ذلك مصدقاً، فهو مصدق لكنه يتلقى أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم بالإباء والاستكبار، فيكون كافراً بإبائه واستكباره وإن كان مصدقاً، ومن أمثلة ذلك كفر إبليس، فإبليس ما قابل أمر الله بالتكذيب والرد، وإنما قابل أمر الله بالاستكبار والإباء والاعتراض، قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:٣٤]، فكفر إبليس بالإباء والاستكبار والاعتراض على الله، ولهذا اعترض على الله وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:١٢]، فهذا اعتراض على الله، وقد عارض أمر الله بالقياس الفاسد، وأول من قاس قياساً فاسداً هو إبليس، ولهذا يقول بعض السلف: ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس، وأول من قاس قياساً فاسداً هو إبليس.

والقياس أو الرأي في مقابل النص فاسد عند أهل العلم.

فإبليس عنده نص، وهو أمر الله {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الإسراء:٦١]، لكنه قال: كيف أسجد لآدم وعنصري أحسن من عنصر آدم؟! فآدم عنصره الطين وعنصري النار، والنار أحسن من الطين، ولهذا قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:٧٦]، فأنا أفضل منه ولا يمكن أن يسجد الفاضل للمفضول، وهذا اعتراض على الله ورد لأمر الله، وقياس فاسد في مقابل النص، وما علم الأبله أن عنصر آدم خير من عنصره، فإن عنصر آدم الطين والتراب، والطين والتراب فيه الدعة والسكون والثبات والاستقرار، وما حوله ينبت ويزهو، وأما عنصر إبليس فهو النار، والنار من طبيعتها الخفة والطيش والعلو وأكل ما حولها، كما قال تعالى: {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:٢٨]، فمن قال لك -أيها الأبله-: إن عنصرك أحسن من عنصر آدم؟! فإبليس قابل أمر الله بالإباء والاستكبار والاعتراض لا بالإنكار والتكذيب.

ومن أمثلة ذلك: فرعون وقومه، فكفرهم -أيضاً- كان بالإباء والاستكبار، قال الله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:٤٥ - ٤٧]، فهذا إباء واستكبار، فقولهم: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون:٤٧] يعني موسى وهارون {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:٤٧]، وسبق أن فرعون كفر بالتكذيب والجحود، كما كفر بالإباء والاستكبار، فاجتمع في فرعون الأمران، فهو مكذب جاحد بلسانه أحياناً، وهو -أيضاً- مستكبر، فاجتمع فيه النوعان: كفر الإباء والاستكبار، وكفر التكذيب والجحود، وهذا هو الغالب على أعداء الرسل من الأمم الذين أبوا واستكبروا عن اتباع الرسل، كما حكى الله عنهم بقوله: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم:١٠]، فهذا إباء واستكبار، حيث قالوا: كيف نؤمن لكم وأنتم بشر مثلنا؟ {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم:١١].

وأخبر سبحانه وتعالى عن عاد قوم هود بأن كفرهم كان إباءً واستكباراً فقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:١٣ - ١٥].

وكذلك ثمود استكبروا وكفروا، وأبوا، قال الله تعالى في بيان دعوة صالح عليه السلام: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف:٧٤ - ٧٦].

فكفروا بالاستكبار، كما قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف:٧٦].

وكذلك اليهود كفرهم كان بالإباء والاستكبار؛ لأنهم كفروا عن علم ومعرفة لا عن جهل بالحق، قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:٨٩]، وأخبر سبحانه وتعالى أنهم لا يشكون في صدق نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، بل يعترفون بأنه نبي الله وأنه رسول الله حقاً، ويعرفونه من كتبهم كما يعرفون أولادهم، ولهذا قال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [البقرة:١٤٦] يعني محمداً عليه الصلاة والسلام {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:١٤٦]، بل قد اعترف بعض اليهود وقال: نعرف محمداً أكثر من معرفة أبنائنا؛ لأن ابناءنا قد يتطرق الشك إلى الواحد منا هل هو ابن له أو ليس بابن له، بخلاف محمد، فلا يتطرق إلى شخص شك في أنه نبي الله وأنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، واليهود قوم بهت، ومعروف عنهم العتو والعناد والاستكبار، ولم يسلم منهم إلا القليل، ولهذا جاء في بعض الآثار في عتو اليهود أنه: (أنه لو أسلم عشرة من اليهود لتبعهم بقيتهم) أو كما جاء، بخلاف النصارى؛ فإنه يسلم منهم ألوف، ونحن نسمع عن الذين يعلنون إسلامهم من النصارى في مكاتب الدعوة وفي المحاكم في المملكة وفي غيرها، فهم ألوف مؤلفة، أما اليهود فما سمعنا أن أحداً أسلم منهم إلا قلة، ومن هذه القلة عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فإنه صحابي جليل وبادر بالإسلام، وكان سيداً مطاعاً في اليهود، فأسلم ولم يعلم اليهود بإسلامه في أول الأمر، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت فإن يعلموا بإسلامي يبهتوني، لكن اسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي.

فدخل عبد الله بن سلام واختفى عند النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء اليهود ودخلوا عليه وهم لا يعلمون بإسلام عبد الله ولا يعلمون أن عبد الله عند النبي صلى الله عليه وسلم قد اختفى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود: (ما تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا.

وجعلوا يثنون عليه، فقال: أرأيتم إن أسلم؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك.

فخرج عبد الله بن سلام رضي الله عنه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا في الحال: شرنا وابن شرنا، وجعلوا يسبونه)، وهذا من بهتهم، نسأل الله السلامة والعافية.

ومن أمثلة كفر الإباء والاستكبار كفر أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن أبا طالب معترف بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله حق، ومعترف بأن دينه خير الأديان، وقد قال في قصيدته المعروفة: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً لولا الملامة أو حذار سبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً فقد بين المانع له من الدخول في الإسلام، وهو أن يلومه الناس، والحذر من أن يسب دين آبائه وأجداده، ولهذا لما حضرته الوفاة جاءه النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه إلى الإسلام وقال: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)، وكان عنده عبد الله بن أمية وأبو جهل بن هشام، فذكراه الحجة الملعونة، وقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادا عليه، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، ومات على الشرك، فهو مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يشك في صدقه، ولكن أخذته الحمية، وتعظيم آبائه وأجداده وأسلافه، فكان مستكبراً عن عبادة الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فمات على الكفر، وكفره بالإباء والاستكبار، لكن خف كفره بسبب حمايته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يذود عنه، فشفع له النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة خاصة، لكنها شفاعة تخفيف، وهي شفاعة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وخاصة بـ أبي طالب، فلا يشفع في أحد من الكفار إلا في أبي طالب، ثم هي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا يشفع أحد غيره في كافر، وهي -أي

<<  <  ج: ص:  >  >>