للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[صفات المنافقين في سورة البقرة]

افتتح الله تعالى سورة البقرة ببيان طوائف الناس الثلاث، فذكر أن الطوائف ثلاث: الطائفة الأولى: مؤمنون ظاهراً وباطناً، وقد ذكرهم الله في أربع آيات.

الطائفة الثانية: كفار ظاهراً وباطناً، وقد ذكرهم الله في آيتين.

الطائفة الثالثة: كفار باطناً مسلمون ظاهراً، وهم المنافقون، وقد ذكرهم الله في ثلاث عشرة آية، قال الله تعالى في وصف المؤمنين: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:٢ - ٥]، فهذه صفات المؤمنين باطناً وظاهراً، فهم يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله، ويؤمنون بما أنزل على الرسول وما أنزل من قبله، ويصدقون بالآخرة.

ثم ذكر أوصاف الكفار ظاهراً وباطناً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:٦ - ٧].

ثم ذكر المنافقين الذين هم كفار في الباطن ومسلمون في الظاهر في ثلاث عشرة آية، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:٨].

فالوصف الأول: أنهم يؤمنون باللسان ويكفرون بالقلب، فالله تعالى أثبت لهم الإيمان بالقول، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} ونفى عنهم الإيمان في القلب، فقال: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}.

والوصف الثاني: الخداع، قال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:٩].

ومن أوصافهم حصول الشك والنفاق في قلوبهم، قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:١٠]، أي: مرض الشك والنفاق: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:١٠].

ومن أوصافهم أنهم يفسدون في الأرض ويسمون إفسادهم إصلاحاً، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:١١]، فرد الله عليهم: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:١٢].

ومن أوصافهم أنهم يسمون الإيمان سفهاً والمؤمنين سفهاء، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة:١٣]، فرد الله عليهم بقوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:١٣].

وقال تعالى عنهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:١٤].

فالمنافق له وجهان: وجه مع المؤمنين وآخر مع الكافرين، فإذا لقي المؤمنين قال: أنا مؤمن، وإذا ذهب إلى المنافقين والكفار قال: أنا أستهزئ بأولئك المؤمنين وأسخر منهم، وأنا معكم.

قال الله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:١٥ - ١٦].

ثم ضرب الله لهم مثلاً نارياً ومثلاً مائياً، فالمثل الناري قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:١٧ - ١٨]، فهم عرفوا الحق، ورأوا النور ثم عموا عنه وتركوه، كمثل الذي استوقد ناراً فأضاءت ما حوله ثم ذهب الله بنورهم.

ثم ضرب الله لهم المثل المائي فقال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:١٩ - ٢٠]، أي: ليس عندهم ثبات واستقامة، بل عندهم شك وتردد؛ لأن النفاق يتفاوت فيهم، فمنهم من نفاقه مستحكم، ومنهم من عنده شك، ومنهم من يؤمن مرة ويكفر مرة أخرى، كالذي يمشي في ليلة ممطرة فيها ظلمات ورعد وبرق، فكلما أضاء البرق مشى، وإذا أظلم وقف، أي: عنده شك وتردد، نسأل الله السلامة والعافية.

وذكرهم الله تعالى في سورة البقرة فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:٢٠٤]، أي: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا، فيتكلم بكلام طيب حتى تغتر به وتطمئن إليه، ويشهد الله على ما في قلبه أنه صادق، وهو كاذب ومن ألد الخصام! ومن أعمالهم ما ذكرها الله عز وجل بقوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:٢٠٥]، فهذه من أوصاف المنافقين، وكذلك {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:٢٠٦].

<<  <  ج: ص:  >  >>