للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[صفات المنافقين في سورة التوبة]

وفي سورة التوبة جلّى الله تعالى كثيراً من أوصاف المنافقين، وبينها وأوضحها وهتك أستارهم وكشفها، ولهذا تسمى هذه السورة بالفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، وخاف منها المنافقون خوفاً عظيماً، حتى خافوا أن يسموا بأسمائهم من كثرة ما بين الله من أوصافهم بقوله: (ومنهم)، (ومنهم)، (ومنهم).

ومن ذلك قول الله تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:٤١]، فقد أمر الله بالنفير والجهاد بالمال والنفس، وبين أن هذا خير لهم، ثم بين حال المنافقين عند النفير للجهاد، فقال الله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:٤٢]، فلو كان هناك غنيمة والسفر ليس متعباً، كما لو كان غير طويل، وكان على الرواحل وعلى الإبل فإنهم سيتبعونك، أما السفر إلى تبوك فسفر طويل والوقت شديد، وبينها وبين المدينة مفازات، فهذا لا يصبر عليه إلا من عنده إيمان، أما المنافق فلا يصبر على هذا، ولذلك تختلف كثير من المنافقين، ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حلفوا أن لهم أعذاراً، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم منهم على نياتهم ووكل سرائرهم إلى الله.

وقوله تعالى: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [التوبة:٤٢] أي أنهم لم يخرجوا للجهاد لعدم وجود الاستطاعة والقدرة، قال الله: {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:٤٢].

ثم قال الله للنبي صلى الله عليه وسلم: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:٤٣]، وبين سبحانه أن الذي يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في عدم الذهاب إلى الجهاد إنما ذلك بسبب النفاق في قلبه، أما المؤمن فلا يستأذن، قال تعالى: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:٤٤ - ٤٥]، فالمنافقون يستأذنون في عدم الخروج إلى الجهاد بسبب عدم الإيمان بالله ورسوله، ففي قلوبهم ريب وشك في الله ورسوله.

قال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:٤٦]، فبين الله تعالى أنه كره خروجهم إلى الجهاد لما يترتب عليه من المفاسد، ثم بين الله المفاسد التي تحصل من خروج المنافقين، فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:٤٧] أي: شراً وفساداً، {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} [التوبة:٤٧] يعني: يعملون الشر بينكم وفي أوساطكم، {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:٤٧] أي: من ضعفاء البصائر والإيمان فيكم من يسمع لهم: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:٤٧ - ٤٨].

ثم قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:٤٩]، وهذا من أقوال بعض المنافقين، وحين أراد النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك لقتال بني الأصفر -وهم النصارى الرومان- جاء بعض المنافقين وقال: ائذن لي يا رسول الله؛ فإني إذا رأيت نساء بني الأصفر أخشى على نفسي من الفتنة، فلا أستطيع أن أصبر عنهن، فأقع في الفاحشة، قال الله: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:٤٩].

ثم بين الله سبحانه وتعالى أن من أوصافهم أنه إذا أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه نصر ساءهم ذلك، وإذا أصابهم ابتلاء وامتحان سرهم ذلك، قال تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة:٥٠]، قال الله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:٥١ - ٥٢].

ثم قال سبحانه: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ * فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} [التوبة:٥٤ - ٥٥]، أي: لا تغتر بأموالهم الكثيرة ولا بأولادهم الكثيرين، فهذا المال عذاب معجل في الدنيا، ثم لهم عذاب في الآخرة: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:٥٥]، وهذا واضح؛ فإنك تجد صاحب الأموال الطائلة الكثيرة معذباً في جمعه للأموال، فليست عنده راحة ولا طمأنينة في الغالب، فتجده لا يستطيع أن يأخذ راحته من النوم من كثرة الاتصالات وكثرة المشاغل وكثرة الأعمال الإدارية، فهذا عذاب، ثم يأتيه عذاب بعد جمعه، بخلاف من رزقه الله كفافاً، فهذا مستريح، وكذلك من رزقه القناعة في قلبه.

وقال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة:٥٦]، أي: يحلفون بالله إنهم من المسلمين والمؤمنين وليسوا منهم.

وقال تعالى: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة:٥٧]، أي: لو يجدون شيئاً يلوذون به عن الجهاد للاذوا به.

وبين الله تعالى أن من أوصافهم أنهم يعيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتقدونه في الصدقات فقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:٥٨].

وبين الله سبحانه وتعالى أن من أوصافهم أنهم يؤذون النبي: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:٦١] قال الله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:٦١].

وبين الله أن من أوصافهم أنهم يحلفون للمؤمنين حتى يرضوا، قال تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:٩٦]، وقال أيضاً: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:٦٢]، فهم يحلفون للمؤمنين ليرضوهم في الظاهر وهو مخالف لما عليه بواطنهم.

وبين سبحانه أنهم يحذرون من أن تنزل سورة تنبئ المسلمين بما في قلوبهم فقال: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة:٦٤].

ومن أوصافهم السخرية والاستهزاء بالله وبكتابه وبرسوله وبدينه، كما قال الله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:٦٥] وبين الله من أوصافهم أنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ولا يتصدقون، بل أيديهم مقبوضة، ولا ينفقون؛ لأنه ليس عندهم إيمان، قال تعالى: {وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:٥٤]، وإذا أنفقوا أنفقوا شيئاً يسيراً مع الكراهة وعدم انشراح الصدر، قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:٦٧ - ٦٨].

ومن أوصافهم أنهم عاهدوا الله لئن أعطاهم من فضله مالاً فإنهم سيتصدقون ويكونون من الصالحين، فلما أعطاهم الله المال بخلوا وامتنعوا، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَا

<<  <  ج: ص:  >  >>