للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ذكر ما قيل في صفة كلام الله تعالى]

إن أعظم بدعة قيلت في كلام الله هي بدعة الاتحادية الذين يقولون: كل كلام يسمع في الوجود هو كلام الله، سواء أكان حقاً أم باطلاً، شعراً أم نثراً، ولهذا يقول ابن عربي: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه فقوله: (وكل كلام في الوجود كلامه).

يعني: كلام الرب، وهذا مبني على مذهبهم في القول بوحدة الوجود، نسأل الله السلامة والعافية.

والبدعة الثانية: البدعة التي قالها الفلاسفة المتأخرون كـ ابن سينا والفارابي تبعاً لمعلمهم الأول أرسطو، وتبعهم على ذلك بعض من المتصوفة، وهي أن الكلام معنىً يفيض من العقل الفعّال على النفس الفاضلة الزكية، فيحصل لها تصورات وتحقيقات بحسب ما يفيض إليها، وهذا مبني على مذهبهم في القول بقدم العالم، وهذا قول كفري أيضاً.

البدعة الثالثة: بدعة السالمية أتباع هشام بن سالم الجواليقي، وهي أن الكلام -وإن كان ألفاظاً ومعاني وحروفاً وأصواتاً- لا يتعلق بقدرة الرب ومشيئته، وهذه بدعة، وقول خطأ، فالرب لم يزل ولا يزال يتكلم، وسبق الكلام على شبهتهم، وأنهم بنو مذهبهم على القول بأن الكلام لا بد من أن يقوم بالمتكلم.

البدعة الرابعة: بدعة الكرَّامية، فهم يقولون: إن الكلام حادث في ذات الرب، كائن بعد أن لم يكن، وهذا كلام باطل، ويقولون أيضاً: إنه ألفاظ ومعان وحروف وأصوات تتعلق بقدرة الرب ومشيئته، وهذا كلام حق، ولكن قالوا: إنه كلام حادث في ذاته، فهو حادث النوع كائن بعد أن لم يكن، وقالوا: إن الرب لم يكن متكلماً، بل كان الكلام يمتنع عليه، ثم انقلب فجأة فصار الكلام ممكناً له، فنعوذ بالله.

وشبهتهم في هذا أنهم يقولون: لو قلنا: إن الرب يتكلم لكان يخلق بالكلام، فتتسلسل الموجودات والحوادث، وإذا تسلسلت الموجودات والحوادث في الماضي انسد علينا طريق الفهم الصحيح، فلا نستطيع أن نثبت وجود الله، وهذا باطل لأمور.

أولاً: أن الله سبحانه هو الأول فليس قبله شيء.

ثانياً: أن كل فرد من أفراد هذه الموجودات والمخلوقات مسبوق بالعدم، وهو كائن بعد أن لم يكن.

ثالثاً: أن هذا فيه تنقص لله تعالى، ووصف له بالعجز عن الكلام، ومعلوم أن الكلام صفة كمال فكيف يخلو الله عنها في وقت من الأوقات؟! والرب هو الخلاق، كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [الحجر:٨٦]، وقال: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:١٠٧]، فالقول بأن هناك فترة لا يتكلم فيها الرب ولا يخلق ولا يفعل فيه تنقص للرب سبحانه، وهو قول مبتدع ليس عليه دليل، وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل الكلام والبدع من الجهمية والمعتزلة وغيرهم، فقالوا: إن هناك فترة لم يتكلم فيها الرب، ولم يخلق ولم يفعل، فلا تتسلسل الحوادث في الماضي، ولكنها تتسلسل في المستقبل.

وللناس في سلسل الحوادث أقوال: القول الأول -وهو القول الحق- قول أهل السنة والجماعة، وهو أن الحوادث متسلسلة في الماضي والمستقبل، فالرب لم يزل فعالاً لما يريد، ولا يزال يفعل ما يريد في المستقبل، فلا يزال يحدث لأهل الجنة نعيماً بعد نعيم إلى ما لا نهاية، ويحدث لأهل النار عذاباً بعد عذاب إلى ما لا نهاية، وكذلك في الماضي لم يزل الرب يخلق ويفعل، فأهل السنة والجماعة يقولون بتسلسل الحوادث في الماضي والمستقبل.

القول الثاني: أن الحوادث غير متسلسلة في الماضي لكنها متسلسلة في المستقبل، وهذا قول كثير من أهل الكلام وأهل البدع.

القول الثالث: أن الحوادث غير متسلسلة في الماضي ولا في المستقبل، وهذا أفسد الأقوال، وهو قول الجهم بن صفوان، فيقول: إن الحوادث لا تتسلسل في الماضي ولا في المستقبل؛ لأن الجنة والنار تفنيان يوم القيامة، فينتهي الخلق، وهذا من أفسد الأقوال.

وقد أنكر أهل السنة على الجهم هذا القول وبدعوه وضللوه من أجله.

وأما القول بأن الحوادث متسلسلة في الماضي دون المستقبل فهذه صورة عقلية لم يقل بها أحد.

فتكون الصور العقلية في التسلسل أربع: ثلاث صور قيل بها، وصورة لم يقل بها أحد، وهذه الصور هي: الأولى: أن الحوادث متسلسلة في الماضي والمستقبل، وهذا قول أهل السنة.

الثانية: أن الحوادث غير متسلسلة في الماضي ولا في المستقبل، وهذا قول الجهمية.

الثالثة: أن الحوادث متسلسلة في المستقبل دون الماضي، وهذا قول أهل الكلام.

الرابعة: أن الحوادث متسلسلة في الماضي لا في المستقبل، وهذه لم يقل بها أحد.

فإن قيل: هل يتصور العقل أكثر من هذه الصور الأربع؟ ف

الجواب

أنه لا يتصور أكثر من ذلك.

والمقصود أن الكرامية يقولون: إن الرب معطل عن الكلام والفعل فترة، وهذا قول باطل؛ لأنه ليس هناك دليل يدل على هذه الفترة، ولأن هذا تنقص للرب، فالرب خلاق وفعال، ولا يصح أن يكون في وقت من الأوقات معطلاً، عن ذلك.

وأما قولهم: إن هذا يسد علينا طريق إثبات الخالق، فهو باطل؛ لأن الله هو الأول فليس قبله شيء، وهذه المخلوقات كلها حادثة وكائنة بعد أن لم تكن، فكل فرد من أفرادها كائن بعد أن لم يكن.

البدعة الخامسة: بدعة الكلابية، وهي القول بأن الكلام معنى قائم بنفس الرب لا يتعلق بقدرته ومشيئته، وأن الحروف والأصوات حكاية له دالة عليه.

والبدعة السادسة: بدعة الأشاعرة، وهي القول بأن الكلام معنىً واحد لا يتجزأ ولا يتعدد.

أما الكلابية فيقولون: الكلام أربعة أنواع في نفسه: أمر ونهي وخبر واستفهام.

البدعة السابعة: بدعة الجهمية والمعتزلة، وهي القول بأن الكلام ألفاظ ومعانٍ وحروف وأصوات متعلقة بقدرته ومشيئته، إلا أنه مخلوق خارج عنه.

القول الثامن -وهو القول الحق- قول أهل السنة والجماعة الذين تلقوا مقالتهم عن الرسل، وهو أن الكلام صفة ذاتية وفعلية، أي أن الكلام من صفات الرب الذاتية لاتصافه بها أزلاً وأبداً، ومن صفاته الفعلية لكونه واقعاً بقدرته ومشيئته، فهو قديم النوع حادث الآحاد، وكلام الرب صفة من صفاته، فالرب ليس حالاً في خلقه تعالى الله عن ذلك، بل هو مباين لخلقه بذاته وصفاته، فكلامه يتعلق بقدرته ومشيئته، وهو قديم النوع حادث الآحاد، والقرآن كلام الله حروفه ومعانيه، فليس كلام الله الحروف فقط دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف.

فهذه هي الأقوال المشهورة في كلام الرب تعالى، وهناك أقوال أخرى غيرها.

<<  <  ج: ص:  >  >>