للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شفاعة النبي لأهل الموقف]

يحشر الناس في صعيد واحد، كلهم عرايا كما ولدتهم أمهاتهم، ثم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيذهب الناس، كل أمة تذهب إلى علمائها) أي: كل أمة تجري وراء العلماء المخلصين، الذين كانوا يعلمونهم في الدنيا، يا علماءنا اعملوا شيئاً، فيذهب وفد من العلماء بعدما يتشاورون ماذا نعمل؟ فقالوا: نحن سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه من أجل أن تبدأ الشفاعة في بداية الحساب، فأول واحد نذهب إليه آدم أبو البشر، الذي خلقه الله بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، فيقولون: يا أبانا اشفع لنا عند ربك، فيقول: لقد غضب ربي اليوم غضباً لم يغضب مثله قبله، ولن يغضب مثله بعده؛ ويكررون على آدم الرجاء: يا أبانا اشفع لنا، فيقول: وهل أخرج أباكم من الجنة إلا أن عصى ربه، بأي وجه ألقى الله عز وجل، رغم أن الله تاب عليه، لكن مازال مرعوباً، فليست المسألة سهلة، فيقول لهم آدم: أنا لست لها، اذهبوا إلى نوح، كل الذين ذهبوا إلى آدم يذهبون إلى نوح: يا نوح! يا أطول الأنبياء عمراً، يا أول الدعاة على الأرض! اشفع لنا عند ربك، فيقول مقالة أبيه آدم: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضبه من قبل ولن يغضب مثله بعد، أنا لست لها، لقد دعوت على قومي، وقلت: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:٢٦ - ٢٧] أنا لست لها، اذهبوا إلى أبي الأنبياء إبراهيم.

قالوا: إذاً حلت، أبو الأنبياء هذا الخليل، وله دلال على الله، وهو ذو المكانة من الله، فيقولون: يا خليل الرحمن! اشفع لنا عند ربك، وما هي الشفاعة هنا؟ هي بداية الحساب، يعني: كل هذا الرجاء من أجل أن يبتدئ الحساب، فلا تظن أن الشفاعة من أجل أن يدخل الناس الجنة! لا، بل من أجل أن يبدأ الحساب، فالمسألة خطيرة وصعبة، لذلك كان الرسول يقول دائماً: (لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً، ولضحكتم قليلاً، ولما هنأت لكم حياة، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيها جبهة ملك ساجد، يسبح بحمد الله، حتى إذا حشروا أمام ربهم يوم القيامة قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك).

إذاً: فالمسألة خطيرة، والملائكة الذين يشغلون أنفسهم بعبادة الله، يقولون: ربنا لم نعبدك حق عبادتك، وأنت عندما يكرمك الله تنظر إلى وجه ربك يوم القيامة، يجب أن تستقل العبادة التي أمرك بها.

يقول الخليل لهم: لقد كذبت، أنا لا أستطيع، لقد غضب ربي اليوم غضباً لم يغضب مثله قبل، ولن يغضب مثله بعد، أنا لست لها، اذهبوا إلى كليم الله موسى، قالوا: هو هذا الذي سيكلم ربنا، الإنسان دائماً يعيش على الرجاء، وهو في كل حلقة يرجو الحلقة التي تليها، فيقولون: يا موسى! ربنا اصطفاك على الناس برسالته وبكتبه، اشفع لنا عند ربك، فيقول: لست لها، لقد دعوت على قومي: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:٨٨].

كل نبي من الأنبياء يرى نفسه مذنباً، إذاً فنحن بالله عليك أين نذهب؟ يعني: الأنبياء يقولون: لا، إن ربنا غضب اليوم، لا أحد يستطيع أن يتكلم، إلى درجة أن الله عز وجل عند أن يجمعهم ويسألهم: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:١٠٩] وهم يعرفون الإجابة لكن يقولون: {لا عِلْمَ لَنَا} [المائدة:١٠٩]، ولذلك قالوا: يا خليل الرحمن! لم لا تشفع لنا عند ربك يوم القيامة، -هؤلاء أتباعه- ألست خليل الرحمن؟ قال: خوفي من ربي أنساني خلتي معه، أي: الخوف أنساني أنني خليله، يا إلهي! انظروا خوفهم إلى أين أوصلهم؟ يقال: إن سيدنا أيوب كان يبكي خوفاً من الله حتى ينبت الزرع من كثرة دموعه، فكم كان مقدار دموعه؟ فيقول لهم إبراهيم: أنا لست لها، اذهبوا إلى روح الله عيسى، قالوا: إذاً هنا الحل، وقال مثلما قال إخوانه من قبل وأبوه آدم، أي: ربنا غضب اليوم غضباً لم يغضبه من قبل، ولن يغضب مثله بعد أنا لست لها، أين أنتم ممن قال أنا لها أنا لها! أين أنتم من أخي محمد؟ لماذا لا تأتون إليه مباشرة، كل واحد من الأنبياء يقول: لست لها لست لها لست لها، إلا محمداً عليه الصلاة والسلام.

فيقولون له: يا رسول الله! يا خاتم النبيين! يا خير خلق الله! يا من كذا وكذا! - طبعاً فيه من الصفات الكثيرة - اشفع لنا عند ربك، فتكون أول إجابة له أن يقول: (أنا لها أنا لها) صلى الله عليه وسلم، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فأنهض فأسجد بين يدي ربي تحت العرش، ويفتح الله علي من محامده ما لم يفتح من قبل)، يعني: يلهمه الله كلاماً لا يعرفه من قبل، فيظل يحمد الله ويثني على ربه بما هو أهله، ويبكي، لكن هل يبكي من أجل نفسه أو أهله؟ لا، من أجل فاطمة والحسن والحسين؟ لا، وإنما يقول: (يا رب أمتي يا رب أمتي، يقول له: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع).

ارفع رأسك يا حبيبي! أما كفتك العبادة؟ أما كفاك القيام؟ أما كفاك الهجود؟ أما كفاك الصيام؟ أما كفاك الصلاة حتى تورمت منك الأقدام يا خير الأنام؟ ارفع رأسك فيقول: (يا رب أمتي يا رب أمتي) فيقول الله عز وجل: (رحمتي لن تضيع أمة هذا رسولها، وهذا ربها الرحمن الرحيم).

فاللهم شفع فينا نبينا، اللهم شفعه فينا اللهم شفعه فينا اللهم شفعه فينا يا رب العالمين.

وفي أرض المحشر التي هي بيضاء نقية كالفضة لا حفرة فيها ولا تل، يكون مع الإنس فيها هناك الجن، والشياطين، والحيوانات، قال تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:٥]، قالوا: ويحيط بهذا كله الملائكة، كما قال تعالى: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:٢٥]، فالملائكة تركت مدار العبادة الذي في السماوات والأرض، وأحاطت بأهل المحشر، فلا خلاص من أمر الله، ونكس الجميع رءوسهم خشية لله عز وجل، ثم نكست الوحوش رءوسها خشية من الله، وهي ما اقترفت ذنباً، ولن تحاسب بالحسنات والسيئات وهي في حالة من الخوف، إذاً: فنحن أولى أن نخاف ونرتعب، ونكون في الدنيا على وجل، وإن قوماً غرتهم الأماني، يقولون: نحسن بالله الظن، ووالله لقد كذبوا، ولو صدقوا لأحسنوا العمل.

القضية: أن الإيمان ليس بالتمني، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، إياك أن تقول: هذا شخص قلبه أبيض، أو: صحيح أنه لا يصلي، ولكن قلبه أبيض، وصحيح أنه لا يخرج الزكاة، لكن قلبه أبيض! بل قل: هذا قلبه أسود؛ لأنه لا يقيم شرع الله عز وجل، فحذار أن تضيع شرع الله، وتضيع سنن الحبيب المصطفى، وحذار أن تبتعد عن مجالس العلم، والله يأمر حبيبه قائلاً: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:٢٨ - ٢٩].

فاللهم اجعلنا من المؤمنين يا رب العالمين.