للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ركوب بحر التمني]

أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد: فهذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة الرابعة عشرة في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة، أو عن الموت وما بعده، أو عن مشاهد يوم القيامة، وهذه الحلقة -إن شاء الله- فيها شيء من التيسير والأمل في مشاهد يوم القيامة، ونحن جمعياً في حاجة لذلك، أي: إلى حديث يتسم بالرحمة عسى رب العباد أن يرحمنا وإياكم في الدنيا والآخرة.

إن القلوب قد كلت من عناء الدنيا وما فيها، وإن الصدور قد ضاقت بأهل الباطل، وإن المسلم يصبح ساعياً في هذه الحياة ما بين هؤلاء وهؤلاء {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود:٤٣]، فاللهم ارحمنا فيمن رحمتهم يا أرحم الراحمين.

إن قلب الإنسان له أمور تصلحه وأمور تفسده، والأمر الوحيد الذي يصلح القلب هو ذكر الله عز وجل، قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:٢٨]، فاللهم اجعل قلوبنا من المطمئنة بذكرك يا رب العالمين.

القلوب تفسد كما يفسد الجسد، والروافد أو المصادر التي تجعل الفساد يسرع إلى القلوب خمسة.

اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تقنع، إنك يا ربنا على كل شيء قدير.

العلم إن لم ينتفع الإنسان به فسوف يصير حجة عليه لا له، اللهم اجعل كل علمنا حجة لنا لا علينا يا رب العالمين.

فالحاصل: أن مفسدات القلوب خمسة: أولها: ركوب بحر التمني.

إن المنى رأس مال المفاليس كما قال الحكماء، رجل لا يصلي ويقول: ربنا غفور رحيم، أو آخر عريان في الشارع، ويقول كذلك: ربنا غفور رحيم، وآخر يسعى في خراب بيوت الله ويقول: الله غفور رحيم، فهؤلاء يركبون بحر التمني، وإن قوماً غرتهم الأماني ويقولون: نحسن بالله الظن، ووالله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.

فالقضية ليست إحسان ظن نظري، بل إحسان ظن عملي، ومثاله: أن تقصدني في مائة مسألة وما رددت لك مسألة منها، وأنا لي مصلحة عندك، فيكون عندي حسن ظن فيك لسابقة أعمالي معك، ولو أسأت الظن بك لكنت غير عاقل، والعكس بالعكس.

{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:٦٠] أمرك بأوامر ونهاك عن نواه، فوجدك عند الأمر مفقوداً وعند النهي موجوداً، ثم تدعي إحسان الظن بالله! على أي أساس تحسن بالله الظن؟ إن أردت أن تحسن الظن بالله فلابد لك من سابقة أعمال، لما دعا سيدنا زكريا ربه: ما كنت بدعائك رب شقياً أي: ما شقيت أبداً عندما كنت أدعوك، فله سابقة أعمال طيبة.

إذاً طالما أن العبد قد قدم خيراً فليحسن الظن بالله تعالى، أما لو أمرت ابنك بأمر لا يسمع كلامك، فنقول له: يا ولد اعمل كذا، يقول لك: لا، وتقول له: لا تذهب المكان الفلاني، فيذهب ويضيع وقته، هذا الولد لو أن له طلباً عندك فلا يمكن أن تحققه، ولو أنه عاقل لما أحسن الظن بك {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:٦٠] وإن قوماً غرتهم الأماني يقولون: نحسن الظن بالله، والله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.

إذاً: فأول منبع من منابع فساد القلوب: ركوب بحر التمني.

<<  <  ج: ص:  >  >>