للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ذكر ما جاء في جهنم]

جهنم هي أول دركة من دركات النار، وفيها عصاة موحدون، وهم الذين ماتوا وما زالت لهم سيئات لم يتوبوا منها، ولم يرض الله عز وجل بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، وذلك كمن مات وعليه مظالم للعباد ما استطاع أن يرجعها، وعليه ذنوب لم يتب منها، وعليه أشياء لم يبدلها الله حسنات أو يمحها، عندئذ دخل جهنم.

وسميت بجهنم اشتقاقاً من التجهم، نقول: فلان متجهم أي: مكشر ووجهه غير مريح لمن ينظر إليه، فكأن جهنم تتجهم في وجوه أصحابها، أي: تكون عابسة متجهمة لا يستريح إليها ناظر، وهذه الدركة لمن يدخل النكد على المسلمين من المسلمين أنفسهم، فهذا الصنف يوضع في وادٍ في جهنم يسمى بوادي الحسرات، والحسرات: جمع حسرة، قال تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:١٦٧].

فأهل الحسرة ينظر إليهم أهل النار فيرون أنهم أشد أهل جهنم عذاباً؛ لأنهم كانوا يدخلون النكد على المسلمين وعلى بيوتهم، كالمدير الذي ينكد على الموظف في وظيفته، والرئيس الذي ينكد على مرءوسه ويحول حياته إلى جحيم، ويخوفه ويرعبه بالتقارير، فهؤلاء أناس يدخلون الكآبة والحزن على الناس، ومن أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، فأنت تجعل زوجتك مسرورة وأمك كذلك وأختك وعمتك وخالتك بصلة الرحم، فلابد أن تدخل الفرح على المسلمين.

يذكر أن ابن عباس اعتكف في رمضان تحت الحجر الأسود، فجاءه رجل يطلب منه قضاء حاجته، فخرج ابن عباس مع الرجل ثم رجع، فتعجب المسلمون من ذلك، لماذا قطع ابن عباس الاعتكاف، فلما سئل ابن عباس عن ذلك قال: هذا الرجل كانت له حاجة فقضيتها له، فقالوا: أتقطع اعتكافك عند الحجر الأسود من أجل قضاء حاجة هذا الرجل، فقال: لأن أسير خطوة في قضاء حاجة أخي المسلم أحب إلي من أن أعتكف عند الحجر الأسود سبعين سنة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه).

وجيء برجل مسرف على نفسه، أي: سيئاته أكثر من حسناته فقال الله: أما له من حسنة؟ قالوا: لا يا رب! قال: تعال يا عبدي! أما لك من حسنة؟ قال: كلا يا رب! السيئات أكلت الحسنات، فقال ملك من الملائكة: يا رب! هذا رجل كان موسراً في الدنيا يدين الناس، فكان يقول لغلمانه: من كان معسراً فلتيسروا عليه ومن لا يستطيع أن يرد فاسمحوه، فقال الله: عبدي أأنت أكرم مني؟ أدخلوه الجنة.

واتق الله في دعاء المظلوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياك ودعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، ويقول الله عز وجل: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين).

يحكى أن الفضل بن الربيع وزير المأمون رمي به في السجن لتهمة ألصقت به فرموه في السجن هو وابنه، ولم يكن الأب يستطيع أن يتوضأ بالماء البارد، فكان ابنه يقوم بعد العشاء بعد أن ينام أبوه ويمسك كوز الماء ويضعه على صدره، ويستمر على ذلك إلى قبيل طلوع الفجر، فيقوم الأب وقد أصبح الماء دافئاً فيتوضأ، وذات مرة استيقظ الأب فوجد ابنه يبكي فسأله عن بكائه فقال: ما هذا الأمر الذي وصلنا إليه يا أبتاه! أذل بعد عز؟ فقال الأب: يا بني! لعلنا ظلمنا أحداً، فهذه دعوة مظلوم سرت في جنح الليل ونحن نيام ولكن الله لم ينم.

يحكى أن صياداً فقيراً اصطاد سمكة، وكان أمير تلك البلدة متعوداً على الظلم، فأخذ السمكة من يد الصياد عنوة، فقال الصياد: إنني فقير، أريد أن أبيعها وأشتري شيئاً لأولادي، فقال الأمير: ليس لدي نقود، وأخذ يشد السمكة فأصيب بشوكة من شوكاتها في إصبعه فرجع إلى بيته وطبخوا له السمكة وأكل من السمكة المغتصبة، وبعد أيام زاد ألم إصبعه وتسممت، فجمعوا له أطباء مملكته لعلاجها فما استطاعوا، فقالوا: لابد من قطعها حتى لا ينتشر السم إلى الذراع، فقطعوا إصبعه، ولكن السم انتشر في الإصبع الأخرى فقطعوها، ثم قطعوا يده والتسمم ما زال منتشراً، وذات ليلة نام الأمير فسمع هاتفاً يقول: وعزة الله وجلاله لنقطعن جسدك إرباً إرباً إن لم تستسمح الصياد الفقير! فانتبه من الظلم؛ فإن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب؛ لأن المظلوم يدعو عليك وأنت نائم وعين الله لم تنم، وهناك واد -والعياذ بالله- يسمى وادي هبهب يوضع فيه الظلمة، اللهم لا تجعلنا من الظالمين يا رب العالمين.

فجهنم هي الدركة الأولى في النار، والدركة التي بعدها تسمى سقر ثم الحطمة ثم الهاوية ثم الجحيم ثم لظى ثم الدرك الأسفل.

كان الصحابة جالسين مع سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم فسمعوا صوتاً كأنه الرجفة فقالوا: ما هذا يا رسول الله؟! قال: (هذا حجر ألقي منذ سبعين سنة في جهنم وصل قعرها الآن).

نحن ما زلنا مع العصاة الموحدين، والعاصي الموحد هو المسلم الذي مات وعليه ذنوب، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سوف يأتي يوم تصفق جهنم أبوابها) فسيأتي على جهنم يوم تخلو فيه من سكانها، ولكن سيبقى السكان في الدركات الست الباقية، يعني: كل من قال: لا إله إلا الله يخرج من جهنم، نسأل الله أن يدخلنا الجنة بدون سابقة عذاب يا رب العالمين! إن الله عز وجل بعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبشراً ونذيراً، يبشر بالجنة وينذر ويخوف من النار، والخوف من النار مطلوب، وأنت لو كنت مؤمناً صادقاً فإنك تخاف من الفضيحة يوم القيامة، وتخاف أيضاً من النار وما في النار من عذاب، نسأل الله أن يباعد بيننا وبينها بعد المشرقين.

وأول درجة من الخوف الخوف الذي يبعدك عن الحرام ويحببك في الحلال، فالله عز وجل رزقك مالاً حلالاً لكنه قليل والله سبحانه يبارك في المال الحلال.

وذكر في الأثر أن عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة، هاجر من مكة إلى المدينة وليس معه إلا أربعة دراهم وآخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع رضي الله عنه، فقال سعد بن الربيع لأخيه عبد الرحمن: لدي بستانان فخذ أحدهما، ولدي زوجتان فانظر أحسنهما فأطلقها حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها، فقال له عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في مالك وفي بيتك وزوجاتك دلني على السوق؛ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الرحمن بن عوف وقال: (بارك الله لك يا عبد الرحمن بن عوف في صفقة يمينك) فكان واثقاً ببركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو وضعت يده في التراب لربح، أما نحن فلو خسر أحدنا في تجارته قال: كسبت صلاة النبي ويضحك تلك الضحكة الساخرة وهي مكتوبة عليه في ميزان سيئاته.

وهكذا ذهب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وتاجر بالدراهم التي يملكها، فأخذ يبيع ويشتري حتى جاءته الوفاة بعد عشرات السنين، فأخذوا يقسمون تركته، فكان نصيب زوجته الرابعة من التركة مليوني دينار، وعلى ذلك تصبح تركته أربعة وستين مليون دينار، وكل ذلك ببركة المال الحلال.

إذاً: أول درجة من الخوف هي التي تبعدك عن الحرام فلا تأكل حراماً ولا تتكلم حراماً ولا تنظر إلى حرام، ولا تمد يدك لحرام، ولا تجلس في جلسة فيها حرام، هذه أول درجة من الخوف، فإن لم تكن عندك هذه الدرجة فكن كما قال الحسن البصري: كمن ترك جاريته في السوق ورجع إلى البيت فلم يجدها، فلما عادت سألها: أين كنت؟ قالت: يا سيدي! تركتني في مكان شغل الناس فيه بالبيع والشراء فلم أجد أحداً منهم يذكر الله عز وجل، فخفت أن ينزل غضب الله على من في السوق فأكون معهم فهربت إلى البيت.

وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ما خير البقاع وما شرها؟ قال: انتظر حتى أسأل جبريل) فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل فأخبره مما أخبره الله عز وجل: (أن خير البقاع المساجد، وأن شرها الأسواق)، وقد علمنا الحبيب صلى الله عليه وسلم أن نقول عند دخول السوق: (اللهم إني أعوذ بك أن أكسب فيها يميناً فاجرة أو صفقة خاسرة)، ويذكر أن رجلاً أراد شراء ماعز للإمام الشافعي فقال له: بكم تبيعها؟ قال له: قبل أن تشتري إنها ترفس علفها، فانظر إلى الأمانة في البيع، وإلى الخوف من الله عز وجل.

وسمع النبي صلى الله عليه وسلم شاباً من شباب الصحابة يبكي طوال الليل في تهجده ويقول: واغوثاه واغوثاه من النار، فيلتقي الحبيب به في صلاة الصبح فيقول: يا فلان ماذا كنت تقول؟ قال: كنت أقول يا رسول الله: واغوثاه، أي: أغثني يا رب من النار، قال: (لقد أجريت دمعاً غزيراً من كثير من ملائكة السماء)، أي: أبكيت ملائكة السماء من بكائك.

<<  <  ج: ص:  >  >>