للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[السابقون الأولون]

كنا قد توقفنا في الحديث عن الجنة في سورة الواقعة عند كلام الله عز وجل عن السابقين وعن المقربين، وقد قسمت السورة الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أقسام، وقلنا: إن السابقين كصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسيرون على الأرض ولكن قلوبهم معلقة بالله وبالدار الآخرة، فهم مثلنا يأكلون ويشربون ويبتسمون لكن قلوبهم مع الله، ثم جاء من بعدهم جيل وهو جيل التابعين وتابعي التابعين، اللهم احشرنا في زمرة الصالحين يا رب العالمين! وبسبب التباعد عن عصر النبوة تغيرت بعض الأمور، فقد قال سيدنا علي رضي الله عنه في سنة ستة وثلاثين هجرية: كان الرجل يأتي -أي في أيام سيدنا رسول الله- فيدخل إلى السوق فيقول: من أعامل؟ فيقال له: عامل من شئت.

وهذا يدل على أن كل التجار في السوق يتصفون بالأمانة! ثم جاء زمن فيسأل الرجل: من أعامل؟ فيقال: عامل من شئت إلا فلاناً وفلاناً! والبعض قد يقول لك: هذه غيبة، وهذا خطأ ففرق بين الغيبة والنصيحة فعندما أراك تمشي مع واحد ليس بجيد فليس لي أن أسكت، بل من الواجب أن أنصحك، (الدين النصيحة)، فإذاً: هذه ليست غيبة.

فالسوق كله فيه مئات التجار الصالحين ولكن فيهم من هو ليس كذلك، ثم جاء زمن فيسأل الرجل: من أعامل؟ فيقال له: لا تعامل أحداً إلا فلاناً أو فلاناً! فصار معظم تجار السوق من السيئين، هذا سيدنا علي في سنة ستة وثلاثين هجرية فكيف لو جاء سنة ١٤١٢هـ فماذا سيقول؟! وأبو حنيفة رضي الله عليه كان أكبر تاجر حرير في أرض العراق، عندما باع ابن أخيه ثوباً بأكثر من ثمنه، فرجع أبو حنيفة من الصلاة فلقي الرجل معه الثوب الذي اشتراه من ابن أخيه فقال له: من أين هذا؟ قال له: أتيت به من متجر أبي حنيفة -وما يعرف أن الذي يملكه هو أبو حنيفة - قال له: بكم هذا؟ قال له: بأربعمائة، فقال أبو حنيفة: هذا غالٍ فهو لا يساوي إلا مائتين؛ قال هذا لأنه عارف بضاعته، قال: في بلدتنا يساوي ستمائة، فهو الرابح.

فالبعض يقول: ما هي المشلكة، فإنه يذهب في الليل إلى البقال المسكين الذي يشكو نظره ويعطيه جنيهاً شبه ممزق، ويبقى الجنيه السليم في جيبه، وهذا قد آثر نفسه وترك الشر لأخيه، ولن يكمل إيمان أحدنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

فذهب أبو حنيفة وقال لابن أخيه: الثوب هذا لا يساوي إلا مائتين، فكيف تبيعه بأربعمائة، فقال: يا عم هو راضٍ وأنا راضٍ، قال: إذا كان هو قد رضي فإن الله لم يرضَ.

ولهذا قال سيدنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم -والكلام هذا لإخواننا التجار-: (الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون) والجالب هو الذي يجلب السلعة لكي يبعيها بالحلال فإن ربنا يوسع عليه، والمحتكر هو الذي يسمع خبر الغلاء فيخبئ السلع، سواء كانت دواء أو غيره، فإذا جاء المريض إلى صاحب الصيدلية فإنه يكذب بأن الدواء غير موجود بل وقد يحلف، ولكن عندما يقول له: أنا من طرف فلان من الناس ويخرج البطاقة فإنه يقول: كانت آخر واحدة وسأعطيها لك.

فالمحتكر ملعون ومحتكر السلعة كإبليس مطرود من رحمة الله.

ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التناجش فقال: (لا تناجشوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض)، والتناجش هو أن يأتي البائع بمن يزيد له في السلعة وهو لا يريد الشراء بغرض أن يزيد في سعر السلعة على المشتري.

فالسابقون وهم جيل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا رهبان الليل، فرسان النهار رضي الله عنهم، والواحد منهم تكون الآخرة أمامه دائماً ولا تغيب عنه أبداً.

سيدنا أبو بكر في يوم أن مات نادى عائشة، فقالت: نعم يا أبتي! قال لها: خذي إلى بيت المال الأشياء التي كنت أملكها، فوجدوا عنده زيراً يضع فيه ماء، ورحى يُطحن فيها، وسجادة قديمة من الصوف كان يفرش نصفها ويتغطى هو وزوجته بنصفها، فقال: يا عائشة! عندما أموت قومي بإرجاع هذا لبيت المال لكي أعود إلى الله كما خرجت إلى الدنيا.

وعمر رضي الله عنه يقول وهو ينازع سكرات الموت: وددت أن كنت قد عشت كفافاً لا عليَّ ولا لي ولا ألي أمر المسلمين يوماً واحداً، وكان يمسك تبنة ويقول: ليتني كنت تبنة، ليت أم عمر لم تلد عمر، يا ليتني كنت نسياً منسياً.

وكان سيدنا عثمان رضي الله عنه في حجرته في الدور العلوي وكان يقرأ من أواخر سورة التوبة فدخلوا عليه وهو يقرأ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:١٢٨ - ١٢٩]، فقتلوه وسالت دماؤه الزكية على المصحف، وذهب إلى الله عز وجل شهيداً.

ثم جاء علي كرم الله وجهه في ليلة السابع عشر من رمضان وهو ذاهب يصلي الفجر فطعنه ابن ملجم.

وغيرهم أمثال: عمار بن ياسر وبلال وأبو ذر وعبد الرحمن بن عوف فهؤلاء طبقة السابقين.

<<  <  ج: ص:  >  >>