للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[عقيدة السلف في القرآن وصفة الكلام لله]

قال: [ويشهد أصحاب الحديث ويعتقدون أن القرآن كلام الله وخطابه ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال بخلقه واعتقده فهو كافر عندهم، والقرآن -الذي هو كلام الله ووحيه- هو الذي نزل به جبريل على الرسول صلى الله عليه وسلم قرآنا عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً، كما قال عز وجل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:١٩٢ - ١٩٥].

وهو الذي بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته كما أمر به في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:٦٧] فكان الذي بلغهم بأمر الله تعالى كلامه عز وجل، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: (أتمنعونني أن أبلغ كلام ربي) وهو الذي تحفظه الصدور، وتتلوه الألسنة، ويكتب في المصاحف، كيفما تصرف بقراءة قارئ ولفظ لافظ وحفظ حافظ، وحيث تلي، وفي أي موضع قرئ أو كتب في مصاحف أهل الإسلام وألواح صبيانهم وغيرها كله كلام الله جل جلاله غير مخلوق؛ فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم.

سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول: سمعت أبا الوليد حسان بن محمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق؛ فمن قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم، ولا تقبل شهادته، ولا يعاد إن مرض، ولا يصلى عليه إن مات، ولا يدفن في مقابر المسلمين، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه].

هذا الكلام ذكره المؤلف رحمه الله في إثبات القرآن، وأنه كلام الله عز وجل، وهو من الصفات التي اشتد فيها النزاع بين أهل السنة وبين أهل البدع.

وهناك صفات اشتد فيها النزاع بين أهل السنة وبين أهل البدع، من أثبتها فهو من أهل السنة، ومن نفاها فهو من أهل البدعة، وهي ثلاث صفات: الصفة الأولى: صفة الكلام، والصفة الثانية: صفة رؤية الله عز وجل، والصفة الثالثة: صفة العلو.

فالكلام لا يثبته الجهمية ولا المعتزلة، والأشاعرة يثبتون الكلام على أنه معنى قائم بالنفس، والرؤية كذلك ينكرها الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وكذلك العلو.

وهنا يبين المؤلف رحمه الله عقيدة السلف وأصحاب الحديث: أنهم يعتقدون أن القرآن كلام الله، تكلم به بصوت وحرف، وسمعه منه جبرائيل عليه الصلاة والسلام، ونزل به وحياً على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:١٩٤ - ١٩٥].

أما الجهمية فقد أنكروا أن يكون الله تكلم، يقولون: هذا ليس كلام الله وإنما هو مخلوق.

وكذلك المعتزلة قالوا: ليس لله كلام، وأنكروا اللفظ والمعنى، وقالوا: إن الله خلق الكلام وأضافه إليه، فيقولون: إن الله خلق الكلام في الشجرة، والشجرة هي التي كلمت موسى، وقالت: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:٣٠] هل الشجرة تقول: (إني أنا الله رب العاملين)؟ يقولون: الكلام نحن نثبت الكلام لكن ما نثبت الكلام على أنه لفظ ولا حرف ولا صوت، الكلام معنى قائم بنفس الرب لا يسمع، كما أن العلم في نفسه فكذلك الكلام قائم في نفسه.

أما الأشاعرة فهم أقرب الطوائف إلى أهل السنة ومع ذلك ما أثبتوا الكلام، يقولون: إن القرآن الموجود في المصاحف ليس كلام الله، إنما كلام الله معنى قائم بنفسه، لكن هذا عبارة عن كلام الله عبر به جبريل أو عبر به محمد، وقالوا: إن الله لم يتكلم بحرف ولا صوت، ولم يسمع جبريل من الله حرفاً ولا صوتاً، ولكن يضطر اضطراراً جبريل، ففهم المعنى القائم بنفسه، وجعلوا الله والعياذ بالله كالأخرس لا يتكلم، والكلام معنىً قائم بنفسه ولا يستطيع أن يتكلم به نعوذ بالله!! ليس بحرف ولا صوت ولا يتكلم بقدرته ومشيئته، ومن أين هذا القرآن؟ قالوا: هذا القرآن الله تعالى اضطر جبريل اضطراراً ففهم المعنى القائم بنفسه، ثم ذهب فعبر بهذا القرآن وأوصله إلى محمد، فلفظه من جبريل، فهمه جبريل من الله فعبر عنه.

وقالت طائفة من الأشاعرة: الذي عبر به محمد وليس بجبريل، وقالت طائفة أخرى من الأشاعرة: إن جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ وأنزله على محمد، وكل هذه أقوال باطلة، والذي يعتقده أهل السنة والجماعة وأهل الحديث والسلف: أن القرآن كلام الله لفظه ومعناه، بحرف وصوت، وأن الله تكلم به، فسمعه جبرائيل، ونزل به على محمد صلى الله عليه وسلم.

قوله: (ويشهد أصحاب الحديث ويعتقدون: أن القرآن كلام الله وكتابه وخطابه ووحيه وتنزيله غير مخلوق) فالقرآن لفظه ومعناه تكلم الله به، وهو كتاب الله وهو خطابه وهو وحيه وتنزيله، وهو كلام الله اللفظ والمعنى بحرف وصوت.

قوله: (ومن قال بخلقه واعتقده فهو كافر عندهم) ولهذا قال كثير من السلف: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر.

وهذا الحكم إنما هو على العموم، أما المعين فلان بن فلان إذا قال: القرآن مخلوق، فلا يكفر حتى تقام عليه الحجة وتزال الشبهة إذا كانت له شبهة، لكن على العموم يقال: من قال: القرآن مخلوق، أو كلام الله مخلوق فهو كافر، أما الشخص المعين إذا تكلم بهذا فإنه يكفر إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع وزالت الشبهة، فلابد أن يزال اللبس وتزال الشبهة، فإذا أصر قتل لكفره.

قوله: (والقرآن الذي هو كلام الله ووحيه هو الذي نزل به جبريل على الرسول عليه الصلاة والسلام) نعم لفظه ومعناه نزل به من عند الله.

قوله: (قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً) أي: فيه البشارة والنذارة.

قوله: (كما قال عز من قائل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:١٩٢ - ١٩٣] وهو جبريل: {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:١٩٤ - ١٩٥].

وهو الذي بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته كما أمر به في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:٦٧])، هذا القرآن تكلم الله به وبلغه جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم بلغه أمته، فهذا القرآن الذي نتلوه ونسمعه ونقرأه ونحفظه هو كلام الله الذي تكلم به بلفظه ومعناه، وسمعه منه جبرائيل، ونزل به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم بلغه أمته، فالقرآن منزل من عند الله.

قوله: (فكان الذي بلغهم بأمر الله تعالى كلامه عز وجل)، الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتبليغ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:٦٧] فالرسول بلغ كلام الله بأمر الله.

قوله: (وفيه قال صلى الله عليه وسلم: (أتمنعونني أن أبلغ كلام ربي)) هذا الحديث صحيح، لما منعه الكفار من دعوة الناس، قال: (أتمنعونني أن أبلغ كلام ربي)، فالرسول صلى الله عليه وسلم أثبت أنه كلام الله الذي تكلم به.

قوله: (وهو الذي تحفظه الصدور، وتتلوه الألسنة، ويكتب في المصاحف، كيفما تُصِرِّف بقراءة قارئ ولفظ لافظ وحفظ حافظ، وحيث تلي، وفي أي موضع قرئ أو كتب في مصاحف أهل الإسلام، وألواح صبيانهم وغيرها كله كلام الله) يعني: كلام الله عز وجل كيفما تصرف فهو كلام الله، إن حفظه الحافظ فكلام الله له محفوظ، وإن تلاه التالي فكلام الله له متلو، وإن كتب فكلام الله مكتوب، كيفما تصرف فهو كلام الله حقيقة وليس مجازاً، كلام الله محفوظ في الصدور، متلو بالألسنة، مكتوب في المصاحف، إذا قرأه قارئ فهو كلام الله، إذا تلاه التالي يقال: تلا التالي كلام الله، إذا حفظه الحافظ يقال: حفظ الحافظ كلام الله، إذا كتبه كاتب يقال: كتب الكاتب كلام الله.

وهذا حقيقة ليس مجازاً، ولو كان مجازاً لصح أن يوجه النفي إليه فيقال: ما قرأ القارئ كلام الله، ما تلا التالي كلام الله، ما كتب الكاتب كلام الله، وهذا باطل لا يقال، فإذا قرأ القارئ كلام الله يقال: كلام الله مقروء حقيقة، إذا تلاه يقال: كلام الله متلو، إذا حفظه يقال: كلام الله محفوظ في صدور المؤمنين، أو الذين أوتوا العلم، كما قال الله تعالى في سورة العنكبوت: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ * وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:٤٦ - ٤٩].

إذاً: القرآن محفوظ في الصدور، متلو بالألسن، مكتوب في المصاحف، كيفما تصرف فهو كلام الله، حيث تلي أو لفظ أو حفظ أو قرئ أو كتب في مصاحف أهل الإسلام وفي ألواح الصبيان قبل أن توجد، اللوح قطعة من الخشب يطلى بالطين ثم يكتب عليه حتى يتعلم الصبي، فيقال: كتب في اللوح كلام الله، كتب في المصحف كلام الله، فكلام الله مكتوب في مصاحف الإسلام، وألواح الصبيان، وغيرها كله كلام الله جل جلاله.

قوله: (فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم) يعني: كلام الله في القرآن الذي مكتوب في المصاحف ومتلو بالألسن، وموضوع في الصدور هو القرآن بعينه الذي نقول: إنه غير مخلوق، فمن زعم

<<  <  ج: ص:  >  >>