للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل: وكذلك يجب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة والقرابة رضي الله عنهم، فإن الله تعالى أثنى على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من السابقين والتابعين لهم بإحسان، وأخبر أنه رضي عنهم ورضوا عنه، وذكرهم في آيات من كتابه، مثل قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:٢٩]، وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عليه مْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:١٨].

وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)].

يقول المؤلف رحمه الله: (وكذلك يجب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة والقرابة) يعني بالصحابة: صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، والقرابة: قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابي كما سبق: هو كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً ومات على الإسلام، ولو تخللته ردة في الأصح، والقرابة: هم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة النسب، فيجب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة والقرابة، وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله بالإنصاف والعدل، لا بالهوى والتعصب، ولا يجوز الغلو في جانب الصحابة كأن يعتقد الإنسان أنهم معصومون، أو أنهم يستحقون شيئاً من الألوهية، كما لا يجوز الجفاء مثل: سب الصحابة وإيذائهم، فكل ذلك من المنكرات العظيمة، فالواجب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة، واعتقاد فضلهم وسابقتهم وخيريتهم، وأنهم خير الناس بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم.

وكذلك يجب الاقتصاد والاعتدال في أمر قرابة النبي صلى الله عليه وسلم بدون غلو كما تفعل الرافضة، فإنهم يعبدونهم من دون الله، ومن دون جفاء كما تجفو النواصب من الخوارج وغيرهم، فإنهم جفوا آل البيت وكفروا علياً ومن شايعه، فالواجب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة والقرابة، ويكون ذلك بالترضي عنهم، والترحم عليهم، وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله بالعدل والإنصاف، لا بالهوى والتعصب، فإن الله تعالى أثنى على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من السابقين والتابعين لهم بإحسان وأخبر أنه رضي عنهم ورضوا عنه، وذكرهم في آيات من كتابه مثل قوله تعالى: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ)) وهم الصحابة رضوان الله عليهم ((أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)) وهذا وصفهم ((تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ)) يعني: قواه ((فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)) وقد استنبط الإمام مالك رحمه الله من قوله: ((لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)): أن من أغاظ الصحابة فهو كافر؛ لأن الله أخبر: أنه يغيظ بالصحابة الكفار، قال: فمن أغاظ الصحابة فإنه يكون مرتداً -نعوذ بالله- لأن الله قال: ((لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)) فمن سب أو أغاظ الصحابة فإنه يكون كافراً لهذه الآية كما قاله الإمام مالك رحمه الله.

قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:٢٩]، وهذا ثناء على الصحابة، ووعد كريم، فكيف يسب الصحابة من يؤمن بالله واليوم الآخر؟! وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عليهمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:١٨]، وهذا: في أهل بيعة الرضوان وكانوا ألفاً وأربعمائة.

وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام مسلم عن حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة)، فهذا وعد كريم، وقد كانوا ألفاً وأربعمائة، وقال سبحانه وتعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الحسنى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد:١٠]، كلهم وعدهم الله بالحسنى وهي: الجنة، وهو وعد كريم، وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، وهذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم لـ خالد بن الوليد، لما حصل بينه وبين عبد الرحمن بن عوف سوء تفاهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مخاطباً خالداً بن الوليد: (لا تسبوا أصحابي)، يعني: المتقدمين في الصحبة، وإلا فـ خالد صحابي، لكن إسلامه تأخر فلم يسلم إلا بعد صلح الحديبية، وعبد الرحمن بن عوف من السابقين الأولين، وبينهم تفاوت في الصحبة، والصحابة طبقات، وهناك طبقة بعدهم: وهم الذين أسلموا يوم الفتح، ويقال لهم: مسلمة الفتح.

والسابقون الأولون: هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والمراد بالفتح: صلح الحديبية وهذا هو الصواب، وقيل: المراد بالسابقين الأولين: من صلى إلى القبلتين بيت المقدس والكعبة، لكن هذا قول ضعيف، والصواب: أن السابقين الأولين: هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وجاهدوا، والمراد بالفتح: صلح الحديبية، فقد سماه الله فتحاً في سورة الفتح فقال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:١]، ولما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على عمر قال: أفتح هو؟ قال: نعم.

فقال سبحانه: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:١٠]، فلما حصل بعض الكلام بسبب سوء التفاهم بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف، فكأن خالداً سب عبد الرحمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مخاطباً خالداً وكان ممن تأخر إسلامه وتأخرت صحبته: (لا تسبوا أصحابي)، يعني: المتقدمين في الصحبة كـ عبد الرحمن بن عوف، فلا تسبوا -أيها المتأخرون في الصحبة- أصحابي المتقدمين في الصحبة فإن بينكم تفاوتاً عظيماً: (فوالذي نفسي بيده!) وهذا قسم، وهو الصادق عليه الصلاة والسلام وإن لم يقسم، لكن لتأكيد الأمر، وفيه: إثبات اليد لله عز وجل، قوله: (فوالذي نفسي) أي: نفس النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (فوالذي نفسي بيده! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، يعني: لو أن أحدكم -أيها المتأخرون في الصحبة كـ خالد بن الوليد ومن أسلم بعد الحديبية -أنفق مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، فلو أن خالداً أنفق مثل أحد ذهباً، وأنفق عبد الرحمن مداً، والمد: ملء كفي الرجل المتوسط، أو نصف مد لسبق عبد الرحمن لتقدمه في الإسلام على خالد، فإذا كان هذا التفاوت بين الصحابة أنفسهم، فكيف بالتفاوت بينهم وبين التابعين؟ وخالد رضي الله عنه أسلم بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة، وهناك طبقة بعدهم: وهم الذين أسلموا بعد فتح مكة ويقال لهم: الطلقاء، ومنهم: معاوية بن أبي سفيان، وأخوه يزيد، وأبوه أبو سفيان، ويقال لهم أيضاً: مسلمة الفتح، فهم طبقات، فإذا كان هذا التفاوت بين الصحابة أنفسهم، فكيف بالتفاوت بين الصحابة ومن بعدهم، فهو أعظم وأعظم.

<<  <  ج: ص:  >  >>