للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إيثار محاب الله على محاب النفس]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما الواجب أن يقدم من قدمه الله ورسوله ويؤخر من أخره الله ورسوله، ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغض الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، وأن يرضى بما رضي الله به ورسوله، وأن يكون المسلمون يداً واحدة، فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس إلى أن يضلل غيره ويكفره وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة، ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين فليس كل من أخطأ يكون كافراً ولا فاسقاً، بل قد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:٢٨٦].

وثبت في الصحيح أن الله قال: (قد فعلت) لا سيما وقد يكون من يوافقكم في أخص من الإسلام مثل أن يكون مثلكم على مذهب الشافعي أو منتسباً إلى الشيخ عدي].

الآن وجه الخطاب إلى طائفة عدي بن مسافر الأول، فقوله: (أن يكون مثلكم).

يعني: شافعي؛ لأنهم كانوا شافعية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم بعد هذا قد يخالف في شيء وربما كان الصواب معه، فكيف يستحل عرضه ودمه وماله مع ما قد ذكر الله من حقوق المسلم والمؤمن؟].

فالواجب على المسلم أن يقدم ما قدمه الله ورسوله، ويؤخر ما أخره الله ورسوله، ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، ويرضى بما رضي الله به ورسوله، فهذا هو المؤمن، وهذه صفة المؤمن الولي، وهذا هو التقي وهو الذي يوافق ربه فيرضى لرضا الله ويغضب لغضب الله، ويوالي في الله ويعادي في الله، ويحب في الله ويبغض في الله، ويكون خوفه ورجاءه من الله، وعطاءه لله ومنعه لله.

والولي هو المؤمن التقي والولاية هي موافقة الولي الحبيب فهي محابه ومكارهه، والولي هو الذي يوافق الله ورسوله في محبوباته ومكروهاته، وعطائه ومنعه، وحبه وبغضه، فهذا هو الولي.

وأن يكون المسلمون يداً واحدة فبعض الناس يضلل من خالفه فيقول فيه: إنه ظالم أو كافر، وقد يكون الصواب معه ولكن لأنه خالفه قال فيه: ظالم، وكافر، وفاسق، لو حققت ودققت وجدت الصواب معه.

فيجب على الإنسان أن يتورع ويحبس لسانه عن صغير التكفير، ويتأمل ويتدبر الأمر، فقد يكون هو المخطئ، ولهذا قال المؤلف: وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة، ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين فليس كل من أخطأ يكون كافراً أو فاسقاً، فمن أخطأ فلا تضلله ولا تكفره، ومن حصل منه زلة فهذا لا يبيح لك تكفيره، ولهذا قال المؤلف: وقد عفا الله لهذه الأمة الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:٢٨٦].

وثبت في الصحيح أن الله قال: (قد فعلت) وهذه رواية الإمام مسلم، وهي أنه لما نزل قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٤]، فخاف الصحابة، وشق عليهم هذا، وجثوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله! أُمرنا بالصلاة والصيام والحج وهذه نطيقها وقد نزلت عليك هذه الآية ونحن لا نطيقها، وهي: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٤] يعني: ما تبديه لنفسك أو تخفيه فالله يحاسبك به، فمن الذي يستطيع أن يمنع الوساوس في الصلاة مثلاً.

فجثوا على الركب وقالوا: (يا رسول الله! لا نطيق هذه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا: سمعنا وأطعنا، فلما اقترأ القوم وذلت بها ألسنتهم نسخها الله وأنزل في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:٢٨٥] ولما قالوا: سمعنا، أنزل الله في إثرها آية تخفف عنهم وهي: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:٢٨٦] قال الله: قد فعلت.

{رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:٢٨٦] قال الله: قد فعلت.

{رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:٢٨٦] قال الله: قد فعلت).

وهذا رواه الإمام مسلم في صحيحه.

يقول المؤلف: لا سيما وقد يكون من يوافقكم في شيء أخص من الإسلام.

يخاطب عدي بن مسافر، مثل أن يكون مثلكم على منهج الشافعي أو منتسب إلى الشيخ عدي، ثم بعد هذا قد يخالف في شيء وربما كان الصواب معه.

يعني يقول: إن بعض الناس يعادي الشخص الذي يخالفه حتى قد يكون موافقاً له في المذهب يكون شافعياً مثله أو منتسباً إلى الطائفة التي أنت منتسب إليها، لكنه يخالف في أمر من الأمور فيبدعه أو يكفره أو يفسقه وقد يكون الصواب معه، ثم تجد بعض الناس يستحل دمه وماله وعرضه، فيغتابه أو يأخذ ماله، أو يستحل دمه وجسده بالضرب، أو بالسجن، أو بالقتل -على سبيل المثال- من أجل أنه خالفه وقد يكون الصواب معه، فكيف يكون هذا الفعل من أفعال المسلم مع ما قد ذكر الله تعالى من حقوق المسلم والمؤمن على أخيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>