للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اختلاف العلماء في رؤية النبي ربه ليلة المعراج]

والصواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه حتى في ليلة المعراج، فالله تعالى لا يراه أحد في الدنيا ولا يستطيع أحد أن يتحمل رؤية الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم لما سأله أبو ذر: هل رأيت ربك -يعني: ليلة المعراج-؟ قال: (نور أنى أراه)، وفي رواية: (رأيت نوراً)، وفي حديث أبي موسى: (حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرق سبحات وجه ما امتد إليه بصره من خلقه).

فلا يستطيع أحد أن يطيق رؤية الله في الدنيا، لكن رؤيته نعيم لأهل الجنة، وأما في الدنيا فالصواب: أنه لم يره أحد، وهذا باتفاق العلماء إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، فاختلف العلماء هل رأى ربه ليلة المعراج أم لا؟ فمنهم من قال: رأى ربه، ومنهم من قال: لم يره، والصواب أنه لم يره.

ومن قال من العلماء أنه رآه فالمراد: رآه بعين قلبه، ومن قال: لم يره، أي: لم يره بعين رأسه، وهذا هو الصواب.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكل حديث فيه أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه في الأرض فهو كذب باتفاق المسلمين وعلمائهم، هذا شيء لم يقله أحد من علماء المسلمين ولا رواه أحد منهم].

أي: أن كل حديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه في الأرض فهو كذب، وإنما الخلاف في رؤيته له في السماء ليلة المعراج، وأصح القولين أنه لم يره بعيني رأسه، وإنما رآه بعين قلبه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإنما كان النزاع بين الصحابة في أن محمداً صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه ليلة المعراج؟ فكان ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر علماء السنة يقولون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج، وكانت عائشة رضي الله عنها وطائفة معها تنكر ذلك، ولم ترو عائشة رضي الله عنها في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ولا سألته عن ذلك، ولا نقل في ذلك عن الصديق رضي الله عنه كما يروونه ناس من الجهال أن أباها سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نعم، وقال لـ عائشة: لا، فهذا الحديث كذب باتفاق العلماء].

يقول المؤلف رحمه الله: كل حديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في الأرض فهذا كذب بالاتفاق، وإنما الخلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج، فبعض الصحابة قالوا: رآه، وبعض الصحابة كـ عائشة قالوا: لم يره، فقد قالت لـ مسروق لما سألها: هل رأى محمد ربه؟ قالت: لقد قف شعري لما قلت، ثم قالت: من حدثك أن محمد رأى ربه فقد كذب.

وروي عن ابن عباس أنه رأى ربه، وروي عن بعض الصحابة، وروي عن الإمام أحمد قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء:٦٠] قال: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج، وفي لفظ: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعينه ليلة المعراج.

والجمع بين هذه النصوص: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وما روي عن بعض الصحابة وعن الإمام أحمد: أنه رأى ربه فالمراد به أنه رآه بقلبه، وما في بعضها أنه رآه فالمراد أنه رآه بعيني قلبه، وما ورد من النصوص عن الصحابة أنه لم يره فالمراد به أنه لم يره بعيني رأسه، وبهذا تجتمع النصوص ولا تختلف وهذا هو الصواب، وهو الذي عليه الجماهير.

وبعض العلماء يرون أنه رآه بعيني رأسه، ومن هؤلاء النووي في (شرح مسلم)، والقاضي عياض والهروي، والصواب الذي عليه الجمهور: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعيني رأسه؛ لأن رؤياه نعيم اتخذه الله لأهل الجنة، ولأن البشر لا يستطيعون أن يروا الله، ولأن الحديث فيه: (أن الله لو كشف الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما امتد إليه بصره من خلقه).

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا ذكر القاضي أبو يعلى وغيره أنه اختلفت الراوية عن الإمام أحمد رحمه الله هل يقال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه أو يقال: بعين قلبه، أو يقال: رآه ولا يقال بعين رأسه ولا بعين قلبه؟ على ثلاث روايات].

نقل القاضي أبو يعلى من الحنابلة الخلاف عن الإمام أحمد في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه على ثلاث روايات، الرواية الأولى: أنه رآه بعيني رأسه، والرواية الثانية: أنه رآه بعيني قلبه، والرواية الثالثة: التوقف، فلا يقال رآه بعيني رأسه ولا رآه بعيني قلبه، وأصح الروايات الرواية الثانية، وهي: أنه رآه بعيني قلبه، وهو الذي عليه الجمهور وتدل عليه النصوص.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك الحديث الذي رواه أهل العلم أنه قال: (رأيت ربي في صورة كذا وكذا)، يروى من طريق ابن عباس ومن طريق أم الطفيل وغيرهما، وفيه: (أنه وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري)، هذا الحديث لم يكن ليلة المعراج، فإن هذا الحديث كان بالمدينة، وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة الصبح ثم خرج إليهم وقال: رأيت كذا وكذا)، وهو من رواية من لم يصل خلفه إلا بالمدينة كـ أم الطفيل وغيرها، والمعراج إنما كان من مكة باتفاق أهل العلم وبنص القرآن والسنة المتواترة، كما قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:١]].

الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ربي في أحسن صورة) يسمى حديث اختصام الملأ الأعلى، ففيه: (يا محمد! بما يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: لا أدري يا رب! فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري، وعلمت كل شيء، فقال الله: بم يختصم الملأ الأعلى فقلت: يا رب! في الدرجات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة).

يقول المؤلف رحمه الله: هذا الحديث ليس هو الحديث الذي فيه أن النبي رأى ربه في اليقظة؛ لأن هذا الحديث رؤيا في النوم، والحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في اليقظة، فبينهما فرق، وهذا الحديث في المدينة وحديث المعراج في مكة، فلا يشتبه هذا الحديث بذلك الحديث.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [فعلم أن هذا الحديث كان رؤيا منام بالمدينة كما جاء مفسراً في كثير من طرقه أنه كان رؤيا منام، مع أن رؤيا الأنبياء وحي، لم يكن رؤيا يقظة كما في ليلة المعراج].

هذه الرؤيا رؤيا منام، ورؤيا الأنبياء وحي؛ ولهذا لما رأى إبراهيم الخليل في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل نفذها في اليقظة، فقال الله له: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:١٠٥]؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد اتفق المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعينيه في الأرض، وأن الله لم ينزل له إلى الأرض، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم قط حديث فيه أن الله نزل له إلى الأرض، بل الأحاديث الصحيحة: (أن الله يدنو عشية عرفة)، وفي رواية: (إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)].

اتفق المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعينه في الأرض، واتفقوا على أنه لم ير أحد ربه غير النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق، حتى موسى الكليم، فقد أخبر الله في القرآن الكريم أنه قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] أي: لن تراني في الدنيا؛ لأنك لا تستطيع ببشريتك الضعيفة أن تتحمل ذلك، {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣]، فلما تجلى الله للجبل تدكدك ولم يصمد لرؤية الله، وهو صخر عظيم، فإذا كان الجبل مع صلابته لم ثبت لرؤية الله وتدكدك وانهار فكيف بالمخلوق الضعيف؟! إذاً اتفق العلماء على أنه لم ير أحد ربه غير النبي صلى الله عليه وسلم، واتفقوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في الأرض وإنما الخلاف في رؤيته في السماء ليلة المعراج على قولين، فمنهم من قال: رآه، ومنهم من قال: لم يره، والصواب أنه لم يره، وهو الذي عليه الجماهير، وكل حديث فيه أن الله نزل له إلى الأرض فهو من الأحاديث المكذوبة، فالأحاديث الصحيحة إنما هي في: (أن الله يدنو عشية عرفة)، وفي رواية: (إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر)، وهذا الدنو يليق بجلاله وعظمته سبحانه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وثبت في الصحيح: (أن الله يدنو عشية عرفة)، وفي رواية: (إلى سماء الدنيا فيباهي الملائكة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً، ما أراد هؤلاء؟)].

وهذا أمر ثابت: أن الله يدنو منهم ويباهي بهم، وهذا الدنو دنو يليق بجلاله وعظمته، وهو فوق العرش سبحانه، ولا نعلم كيفية هذا الدنو.

<<  <  ج: ص:  >  >>