للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حكم المرأة إذا رأت ما يرى الرجل]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المرأة ترى ما يرى الرجل.

حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة حدثنا يونس عن ابن شهاب قال: قال عروة: عن عائشة رضي الله عنها: (أن أم سليم الأنصارية وهي أم أنس بن مالك رضي الله عنهما قالت: يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق، أرأيت المرأة إذا رأت في النوم ما يرى الرجل أتغتسل أم لا؟ قالت عائشة رضي الله عنها: قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فلتغتسل إذا وجدت الماء.

قالت عائشة رضي الله عنها: أقبلت عليها فقلت: أف لك وهل ترى ذلك المرأة؟! فأقبل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تربت يمينك يا عائشة! ومن أين يكون الشبه؟!).

قال أبو داود: وكذا روى الزبيدي وعقيل ويونس وابن أخي الزهري عن الزهري وابن أبي الوزير عن مالك عن الزهري، ووافق الزهري مسافع الحجبي قال: عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، وأما هشام بن عروة فقال: عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة أن أم سليم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم].

الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة، والمؤلف رحمه الله رجح رواية الزهري عن عروة عن عائشة، فتكون عائشة هي التي قالت هذا.

والشيخان رويا هذا الحديث من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة، أم سلمة هي التي قالت ذلك، وجمع النووي بينهما في شرح مسلم بأن عائشة وأم سلمة أنكرتا على أم سليم، وأنه لا مانع من أن تكون كلاهما حاضر، وتكون أم سلمة وعائشة كلاهما أنكرتا على أم سليم.

قال الحافظ ابن حجر: وهو جمع جيد.

واستحسن هذا.

وعلى كل حال فالحديث ثابت، وفيه إثبات الحياء لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته خلافاً لمن تأوله مثل النووي والحافظ، يقول الحافظ: المراد بالحياء هنا معناه اللغوي، والحياء الشرعي خير كله، وقد تقدم أن الحياء تغير وانكسار، وهو مستحيل في حق الله تعالى، فيحمل على أن المراد أن الله لا يأمر بالحياء في الحق أو لا يمنع منه في الحق، وهذا تأويل ليس بصحيح، والصواب إثبات الحياء لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته، والله تعالى له صفات لا تماثل صفات المخلوق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، فالحياء والعلم والكلام والسمع والبصر والاستواء صفات الذات، وصفات الذات كلها تثبت لله كما يليق بجلاله وعظمته، وحياء المخلوق هو الذي يكون فيه ضعف، أما حياء الخالق فهو كما يليق به سبحانه وتعالى، قال عز وجل في كتابه المبين: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:٥٣].

وفي هذا الحديث أن أم سلمة وعائشة أنكرتا على أم سليم الاحتلام، وقالتا: هل المرأة تحتلم؟! والنبي صلى الله عليه وسلم قد صدق أم سليم، وبين أن المرأة تحتلم، لكن إنكار عائشة وأم سلمة يدل على أن الاحتلام في النساء قليل، ولهذا قال ابن عبد البر: فيه دليل على أنه ليس كل إنسان يحتلم، قال: وقد يوجد من لا يحتلم من الرجال، إلا أن ذلك في النساء أكثر، فالنساء أقل احتلاماً من الرجال؛ ولهذا أنكرت عائشة وأم سلمة على أم سليم ذلك لقلة وقوع الاحتلام من النساء؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تربت يمينك ومن أين يكون الشبه؟!) يعني: أن الولد يتولد من ماء الرجل وماء المرأة، قال تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:٥ - ٧] أي: من صلب الرجل وترائب المرأة، والترائب: عظام في الصدر، فإذا اجتمع الماءان خلق الله الإنسان منهما، فهو مخلوق من ماء الرجل ومن وماء المرأة، وكأن هذه الآية خفيت على عائشة وأم سلمة أو أنها لم تنزل إلا بعد ذلك؛ لأن الآية واضحة.

والشبه قد يكون للرجل، وقد يكون للمرأة، وأيهما غلب كان الشبه له، كما جاء في الحديث الآخر: (أيهما غلب أو سبق كان الشبه له).

وفيه دليل على أن المرأة إذا احتلمت ورأت الماء -وهو المني- وجب عليها الغسل كالرجل، وهذا يؤيد الحديث السابق حديث عبد الله العمري ويعضده ويشهد له، فإذا رأى المحتلم الماء فإنه يغتسل، سواء كان رجلاً أو امرأة، إذا احتلم في الليل، ثم رأى الماء فإنه يجب عليه الغسل.

وقول النبي: (تربت يمينك) مثل قوله: (عقرى حلقى)، أصلها تربت يمينك يعني: لصقت يدك بالتراب من شدة الفقر، ومثله: عقرى حلقى، أي: عقرك الله وحلق شعرك، ومثل قوله: قاتله الله، وهذه كلمات تجري على اللسان وليس المقصود منها الدعاء على الصحيح، وإنما المقصود منها الزجر أو الحث على الفعل، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)، فهو من باب الحث، وليس المقصود الدعاء عليه بالفقر، فهي كلمة كانت تجري على ألسنة العرب والمقصود بها الحث على فعل الشيء أو الزجر عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>