للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شرح حديث الأعرابي الذي بال في المسجد]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب الأرض يصيبها البول: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وابن عبدة في آخرين -وهذا لفظ ابن عبدة - قال: أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة (أن أعرابياً دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فصلى -قال ابن عبدة: ركعتين- ثم قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد تحجرت واسعاً، ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه سجلاً من ماء.

أو قال: ذنوباً من ماء)].

وهذا الحديث أخرجه الترمذي والنسائي، وأخرجه ابن ماجة من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، وأخرجه الشيخان من حديث أنس بن مالك، وهو معروف عند أهل العلم بحديث الأعرابي، والأعرابي: من الأعراب، وهم سكان البادية.

وفيه أن هذا الأعرابي قال: [اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً] ثم بال، وجاء في الأحاديث الأخرى أن بوله سابق على قوله أولاً، ثم بعد ذلك لما زجره الصحابة، وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، ورفق به قال: [اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً]؛ لأنه لما رأى خلق النبي صلى الله عليه وسلم ومعاملته، ورأى شدة بعض الصحابة عليه فقال: [اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً].

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [(لقد تحجرت واسعاً)] ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، وقوله: [يلبث] هو من لبث يلبث، من باب فرح يفرح، فالأقرب أنه بال أولاً، ثم لما رأى معاملة النبي صلى الله عليه وسلم قال: [اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً].

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [(لقد تحجرت واسعاً) فرحمة الله واسعة.

وفي هذا الحديث من الفوائد: رفق النبي صلى الله عليه وسلم بالأمة، وأنه ينبغي الرفق بالجاهل وتعليمه، ولهذا قال النبي: [(إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)] يعني: إنما بعث الله نبيكم صلى الله عليه وسلم الذي تأتمون به وتتأسون به إنما بعث بالتيسير لا بالتعسير، وجاء في رواية أخرى أن النبي قال: (دعوه -وفي لفظ قال: لا تزرموه- حتى قضى بوله ثم أمر بسجل من ماء فصب عليه)، وهذه هي الحكمة، لأنه لما زجره الصحابة لو تركهم النبي صلى الله عليه وسلم يزجرونه لحصل مضار على المسجد وعلى البائل: أولاً: يقطع عليه بوله، وهذا يؤثر عليه صحياً.

ثانياً: يقوم ثم يلطخ بوله ثيابه، وتكون بقع البول في نواح متعددة من المسجد، وكل هذه مفاسد، أما إذا ترك يبول في مكان واحد سلم من الضرر الصحي، وسلم جسمه من البول، وسلمت ثيابه من البول، وسلمت الأماكن الأخرى من البول، ثم يؤتى ويصب عليه الماء وتنتهي المسألة؛ ولهذا ينبغي للإنسان المسلم أنه إذا أراد أن ينكر منكراً أن يتأمل، وأن يحيط بالعواقب والآثام قبل أن ينهى، وينظر ما يترتب على هذا المنكر، ولهذا ما سلكه النبي صلى الله عليه وسلم هو عين الحكمة والمصلحة، قال: (دعوه لا تزرموه، حتى قضى بوله، ثم أمر بسجل من ماء وصب عليه، ثم أتى الأعرابي وقال: له يا فلان! إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول، إنما هي لذكر الله والصلاة) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

وفيه دليل على أنه ينبغي الرفق بالجاهل وعدم العنف، وكذا المتعمد، إذا كان يترتب على التغليظ عليه مفسدة، فلا يغلظ عليه؛ لأنه يترتب على زجره وقيامه من البول مفاسد كما سمعنا.

وفيه دليل على أن البول إذا كان في الأرض، يكاثر بالماء ولا يحجر بالتراب ولا ينقل ترابه، فالبول إذا كان في الأرض يصب عليها الماء ويكاثر، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصب عليه سجل من ماء، ولم ينقل ترابه، أما ما جاء أنه نقل ترابه كما سيأتي فلا يصح، فلم يأمر بنقل ترابه ولا بتحديد التراب، فإذا كان البول في غير الأرض فإنه يغسل، وإذا كان في بسط أو فرش كبيرة فإنه يقلب أو يثقل كما قال أهل العلم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جرير -يعني: ابن حازم - قال: سمعت عبد الملك -يعني ابن عمير - يحدث عن عبد الله بن معقل بن مقرن قال: (صلى أعرابي مع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه القصة -قال فيه وقال يعني: النبي صلى الله عليه وسلم-: خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماءً) قال أبو داود: هو مرسل؛ ابن معقل لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم].

هذا الحديث كما قال أبو داود رحمه الله مرسل، ابن معقل بن مقرن لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم والمرسل ضعيف، فلا حجة فيما دل عليه من أخذ التراب وإلقائه، والصواب: ما دل عليه الحديث المرفوع من صب الماء على التراب من دون أخذ التراب وإلقائه.

<<  <  ج: ص:  >  >>