للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شرح حديث علي في صفة وضوء من لم يحدث]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: صفة الوضوء من غير حدث.

أخبرنا عمرو بن يزيد قال: حدثنا بهز بن أسد قال: حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت النزال بن سبرة قال: (رأيت علياً رضي الله عنه صلى الظهر ثم قعد لحوائج الناس، فلما حضرت العصر أتى بتور من ماء فأخذ منه كفاً فمسح به وجهه وذراعيه ورأسه ورجليه، ثم أخذ فضله فشرب قائماً، وقال: إن ناساً يكرهون هذا، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، وهذا وضوء من لم يحدث)].

هذا الحديث فيه ذكر نوع آخر من تجديد الوضوء، وهو مسح الأعضاء الأربعة: الوجه واليدين والرأس والرجلين، بأن يأخذ كفاً من ماء فيكتفي به ويمسح وجهه ويديه ورأسه ورجليه، فهذا وضوء من لم يحدث، وأما طهور المحدث فلا بد فيه من غسل الأعضاء بالترتيب: فالوجه، ثم اليدان، ثم مسح الرأس، ثم غسل الرجلين.

وقد جاء ما يدل على أن تجديد الوضوء يكون وضوءاً كاملاً، فعلى هذا يكون التجديد نوعين: نوع يسبغ فيه الوضوء، ونوع يمسح فيه الأعضاء الأربعة.

والمسح يأتي بمعنى الغسل الخفيف، لكن الأصل أنه المسح المعروف، وهنا ذكر أنه أخذ الماء بكف واحد، وهذا يدل على أنه مسح، وإلا فالمسح يأتي بمعنى الغسل الخفيف، ومنه قول العرب: تمسحت للصلاة.

وبه أجيب عن قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:٦].

فقيل: المراد: امسحوا برءوسكم وامسحوا بأرجلكم، وهو الغسل الخفيف.

وقد جاء في حديث: (من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات) وهذا الحديث ضعيف، لكن إذا أحب المرء أن يجدد من باب النشاط كان له ذلك، كما فعل علي، وكما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:٦].

فهذه الآية في تأوليها أقوال للمفسرين ذكرها الحافظ ابن كثير رحمه الله وغيره، حيث قال بعضهم: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:٦] أي: إذا قمتم محدثين {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:٦].

وقال بعضهم: إن قوله تعالى: ((إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)) يعني: إن كنتم محدثين فالوضوء واجب، (فاغسلوا وجوهكم) وجوباً، وإن كنتم غير محدثين {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة:٦] استحباباً.

والمقصود أن النصوص في السنة بينت هذه الآية، وأن الوضوء إنما يجب على المحدث، وأما غير المحدث فلا يجب عليه وإنما يستحب له، كما فعل علي رضي الله عنه الله تعالى عنه وقال: (هذا وضوء من لم يحدث)، فالذي لم يحدث له أن يجدد الوضوء، وله أن يمسح الأعضاء الأربعة.

وفيه دليل على جواز الشرب حال القيام، كما فعل علي رضي الله عنه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرب قائماً في حجة الوداع، وذلك حين جاء إلى زمزم وهم يسقون، فأعطوه دلواً من ماء فشرب قائماً.

وأما الأحاديث التي فيها النهي عن الشرب حال القيام فهي محمولة على التنزيه جمعاً بين النصوص؛ لأن القاعدة عند أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهى عن شيء ثم فعله دل على أن النهي ليس للتحريم وإنما هو للتنزيه، وهذا هو الصواب في هذه المسألة.

وقد ذهب العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد إلى تحريم الشرب حال القيام، وهذا ليس بجيد، والصواب جوازه؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعله لبيان جوازه، وأما النهي فهو محمول على التنزيه.

وهذا الحديث أخرجه البخاري مختصراً والترمذي في الشمائل.

<<  <  ج: ص:  >  >>